كانت زيارتي، هذه المرة، الى شرقي الجزائر، حيث تنقلت في غير مدينة: غالما وسطيف، ثم بجاية وبسكرة، ولكن المقصد كان قسنطينة، التي هي الآن عاصمة للثقافة العربية. ولذا سوف تتحول طوال عام إلى ورشة فكرية من الأنشطة والندوات واللقاءات في مختلف مجالات الثقافة.

شاركت باللقاءات الفكرية في كل المدن التي زرتها، وبخاصة في قسنطينة. وسوف أقتصر في حديثي على مداخلتي في اللقاء الأخير، الذي عقد في جامعة قسنطينة (2) حول مساهمة العلوم الإنسانية والاجتماعية في تصور وبناء مشروع مجتمع عربي مستقبلي.

كان عنوان مداخلتي عن أوهام الفلاسفة حول المجتمع. وقد ارتأيت أن أقدم لها بنكتة فلسفية:

بعد أن نال أحد الطلاب شهادة الدكتوراه في الفلسفة، احتفي به بإقامة مأدبة حضرها الأهل والأصدقاء. وقد سأله أحدهم: نحن نعرف ماذا يعمل الطبيب والمهندس والتاجر والمحامي، ولكننا لا نعرف ماذا يعمل الفيلسوف. فأجابه صاحب الشهادة: انظر الى هذه الدجاجة التي هي أمامنا على الطاولة. باستطاعة الفيلسوف أن يثبت لك بأنها دجاجتان. عندها قال له الرجل: إذاً خذ دجاجة الفلسفة واترك لي هذه الدجاجة.

هذه النكتة لها دلالتها البليغة، بقدر ما تكشف عن الفجوة بين النظريات المجردة والحقائق الثابتة من جهة، وبين الواقع بالتباساته وتعقيداته وصيرورته من جهة أخرى. وما حاولته هو تسليط الضوء على بعض الأوهام التي تتحكم في رؤية الفلاسفة للواقع والمجتمع.

•وهم القبض

وقوامه ادعاء الفلاسفة الوقوف على كنه الأشياء والقبض على حقيقتها الذاتية. ومنشأ هذا الوهم هو العمل بمنطق المماهاة والمطابقة، كما تجسد ذلك لدى معظم الفلاسفة من أرسطو والفارابي وابن رشد الى ديكارت وكانط وهوسرل.

ولكن تاريخ الفلسفة، بما ينطوي عليه من التعدد والاختلاف أو التعارض والتضارب، في التصورات والآراء، لا يشهد للفلاسفة بل ضدهم، أي ضد الزعم بامتلاك الحقيقة. والشاهد أن بعض الفلاسفة يكتبون ألوف الصفحات دون أن يصلوا إلى بغيتهم، في ما يريدون البرهنة عليه. لأن المهمة مستحيلة، فالبحث لا ينتهي ولا يكتمل. والدرس المستخلص، هو كسر منطق القبض، فما نقوله عن الواقع ليس مرآة الحقيقة، بل هو مجرد قراءة تنتج حقيقتها وتولد أثرها ومفاعيلها، بوصفها مقاربة فعالة تشكل إمكاناً للتفكير، في ما يخص معنى الكائن ومعيار الحقيقة أو حدود المعرفة.

•وهم الفردوس

ومفاده نفي الواقع لكي تصح نظريات الفلاسفة. والمثالات جلية في هذا الخصوص، من أفلاطون الى ماركس، ومن بيار بورديو الى تشومسكي. ومن المفارقات، في هذا الخصوص، أن ماركس نظّر لنهاية المجتمع الرأسمالي، فإذا بالرأسمالية تبقى وينهار المشروع الاشتراكي.

لا شك أن للفلاسفة إنجازاتهم التي تتجلى في ما ابتكروه من المفاهيم في تحليلهم لظواهر المجتمع وبناه ومؤسساته، كما هو شأن مفاهيم الطبقة أو المنظومة أو العصبية أو الصراع أو المسرح أو رأس المال الرمزي، وسواها من المقولات أو الاستعارات التي تصف جانباً من جوانب الحياة الاجتماعية. ولكن الفيلسوف عندما يفكر بتغيير الواقع المجتمعي، فإنه يخترع مجتمعاً أو عالماً لا صلة له بالواقع.

بهذا المعنى فالفرق بين مجتمع الفلاسفة المثالي وبين المجتمع الحي، هو كالفرق بين الدجاجتين.

ومنشأ الوهم، هنا، هو الاعتقاد بتحقيق العدالة على قاعدة المساواة بين البشر، ليس فقط في القوانين، بل في الفرص والخطوط. ولكن العالم تغير دوماً بخلاف أو بعكس تنظيرات الفلاسفة.

والدرس المستخلص هو أنه لا وجود لمكاسب نهائية في ما يخصّ الحقوق والحريات، ما دام لا يوجد حقائق نهائية أو يقينية. والرهان هو العمل الدائم على خلق الإمكانات والفرص التي تتسع معها مساحة الحرية، والتي تتيح للفرد اكتساب المزيد من القدرة في ما يخص صناعة حياته وقود مصيره.

أصل إلى الوهم الأخير ومنشؤه النرجسية البشرية، كما تتجلى في نخبوية الفلاسفة وفي الثقة المفرطة بالإنسان نفسه، بوصفه كائناً يحب الحقيقة والعدالة والمساواة. فلا الفلاسفة هم كائنات عقلية محضة، ولا المجتمعات تسير على هدى العقل والفضيلة، وإلا كيف نفسّر هذا العبث والجنون، أو هذا العجز والفساد، بعد كل هذه الترسانة من النظريات الفلسفية والمنظومات الإدراكية.

والدرس المستخلص هو خفض السقف الرمزي من المتعاليات والمثاليات. فلا وجود لحقائق مطلقة، كما لا وجود لحلول قصوى أو نهائية، لا سيما في هذا الزمن الفائق من حيث تسارعه وسيولته وتغير معطياته بصورة متواصلة.

ولا يعني ذلك الاستسلام للواقع، بل إعادة النظر في أفكارنا، من أجل تطوير أو ابتكار الجديد من المفاهيم أو النماذج أو القيم، التي تسهم في كسر الحدود وتغيير الشروط، بقدر ما تفتح الإمكان للتأثير الإيجابي والبناء في المجريات على سبيل التدخل والتوسط أو الإدارة والتدبّر.