في دراسة نُشرت حديثاً في مجلة «كرنت بيولوجي Current Biology»، تحت عنوان «أهمية وفوائد الكائنات الحية»، دعوت وزملائي -- في صندوق محمد بن زايد للحفاظ على الكائنات الحية -- إلى ضرورة إدراك أهمية جميع الكائنات والفصائل بغض النظر عن تنوع وتدرج فائدتها وقيمتها وذكائها أو جاذبيتها. ونؤكّد على واجب الحفاظ عليها جميعها كما نؤمن بالأهمية المتساوية لكل الكائنات.
إن اهتمامنا بالمحافظة على الكائنات يشمل حتى أصغرها وأحدثها اكتشافاً مثل هديشريديوم أنيتا، الحشرة التي تنتمي لفصيلة دبور الوقواق والمكتشفة حديثاً في محمية الوثبة للأراضي الرطبة والتي تبعد 40 كيلومتراً عن قلب مدينة أبوظبي، بالإضافة إلى أنواع أخرى متواجدة في الإمارات مسلّم بوجودها ولا تلقَ الاهتمام الكافي.
عادةً ما ننظر إلى الكائنات الحية ونتساءل عن فائدتها وكيف تقدم لنا المنفعة، ونميل لافتراض أنها لا تقدّم شيئاً ذا قيمة تذكر، وبالتالي نعتقد أنه لا يتوجب بذل جهد للحفاظ عليها لأجيال مستقبلية. إن هذا النمط من التفكير ليس أنانياً فحسب بل يفتقد للحكمة والبصيرة على المدى الطويل، حيث كل كائن حي بلا استثناء يملك دوراً فريداً يقدمه للطبيعة الأم، حتى ولو لم يكتشفه علمنا المحدود بعد.
بينما يستمر العلم بإدراك قصوره في اللحاق بممالك الكائنات الحية التي تساهم بإثراء الطبيعة والبشرية بطرق لا تزال مجهولة، اكتشف العلماء حديثاً أن السرطان الكماني، المنتشر في السبخات المالحة وغابات القرم يساعد أشجار القرم على النمو بشكل أطول وأكبر وأكثر سماكة، مما يمكّنها من حبس كميات أكبر من الكربون وهي خاصية تتمتع بها أشجار القرم.
كما كشفت دراسة أخرى أجريت على بلح البحر الأزرق الذي يشبه حيوان البطلينوس أنه يحوي خصائص تفيد في تقدم تقنيات منع الالتصاق والتعفن، الأمر الذي يمكن أن يوفّر أحجاماً ضخمة من وقود السفن إذا استخدمت هذه المادة كمانع للاحتكاك في قعر السفن لتسهيل عملية إبحارها، كما يمكن لهذه المادة أن تساهم في تطوّر تقنية منع الالتصاق في التطبيقات الطبية.
لقد وضّحنا في البحث أن أساس علاقتنا الافتراضية يجب أن تكون «المحافظة على الكائنات الحية» في جميع الأحوال، بدلاً عن الانشغال ببرهنة ضرورة المحافظة على أنواع معينة من الكائنات الحية حسب نظرتهم لها من حيث الفائدة المرجوة منها.
القيمة التي يحملها نوع من الكائنات عادة ما يكون غير متوقَّع، مثل القيمة المحتملة لأسماك «باناك» من نوع السلوريات المكتشفة حديثاً في حوض نهر الأمازون، والتي تحوي على بكتيريا معوية بمقدورها هضم الخشب، ويمكنها أن تقلّل مثلاً من الطاقة المستخدمة في عمليات صناعة الورق.
إنَّ لانقراض نوعٍ أو انحصاره بشكل كبير في بيئة ما عواقبٌ؛ مثل النسور الهندية التي تم تسميمها عن طريق الخطأ في تسعينات القرن الماضي، مما أدى لتناقص أعدادها بنسبة 99%. ولم يكن ذلك بالشيء العابِر، فقد خلّف اختفاؤها أثراً في الطبيعة نتج عنه ازدياد أعداد الكلاب الضالة وبالتالي انتشار حالات السعار في الهند وباكستان.
إن انعدام أو محدودية معرفتنا بمعظم أدوار الكائنات الحية في البيئة، لا ينفي وجودها وأهميتها. لهذا، علينا أن نتبنى مقاربات حذرة تجاه كل حالة تسلّط الضوء على قيمة نوع معين، آخذين بعين الاعتبار أنه من واجبنا اعتماد مبدأ الحيطة من أجل حماية كل الكائنات الحية من الانقراض.
لقد حدّدت القيادة الرشيدة في أبوظبي أكثر من 13 بالمئة من مجمل مساحة اليابسة والمياه بصفتها محميّة، وهذه المناطق المحميّة توفّر بدورها البيئة الآمنة للحياة البرية كما وأنها عززت عمليات التكاثر وإعادة إدخال أنواع معينة. نحن نفخر بطائر البشروش يرفرف في محمية الوثبة للأراضي الرطبة وبالمها العربية التي كادت تنقرض من البرية قبل إعادة إدخالها بنجاح إلى محمية أم الزمول.
علينا أن ندرك أن هذه المحميات، بالإضافة لغايتها الأصلية، توفّر الملجأ لشتى أنواع الكائنات الحية الأخرى، التي هي أهلٌ لجهودنا في المحافظة عليها، مثل دبور الوقواق في محمية الوثبة للأراضي الرطبة والسرطان الذي يسكن متنزه القرم الوطني على امتداد ساحل أبوظبي والنخيل القزم في جبل حفيت في العين، كلهم جزء من شبكة الطبيعة المركّبة، حتى لو لم نستوعب دورهم في الطبيعة من أول وهلة.
إن السير على المبدأ الذي ينصّ على أن كل الكائنات الحية مهمة بغض النظر عن قيمتها الظاهرة أو المباشرة -وبالتالي جديرة بجهود المحافظة عليها- تعدّى حدود مدينة أبوظبي.
فصندوق محمد بن زايد للمحافظة على الكائنات الحية يوفر الدعمَ الماليّ لعدة مشاريع للمحافظة على الكائنات الحية في مختلف أنحاء العالم، وحتى يومنا هذا، تبرع الصندوق بأكثر من 12 مليون دولار في 150 دولة بهدف دعم 900 نوع مختلف من النبات والزواحف والطيور والأسماك واللافقاريات والثدييات والفطريات، كما أنه لا يوفّر الدعم للأنواع المهمة فقط مثل وحيد القرن، بل أيضاً لفصائل الأنواع الأقل شهرة وحجماً مثل بعض فصائل الفراشات والسحالي والسلاحف.