ليكن الكلام، مرة أخرى، حول الفلسفة التي تهتم بالشأن الفكري: طريقة التفكير، سياسة الفكر، إنتاج الأفكار. والشأن الفكري هو أهم الشؤون على الإطلاق. إذ عليه تتوقف أحوال الأمم والمجتمعات، سلباً، أو إيجاباً. سلباً لأنه لا تدبير من دون تفكير.
والفكر الحي المثمر لا يقتصر على المشتغلين في حقول الفكر والمعرفة. وإنما هو ميزة الإنسان كان فيلسوفاً أو سياسياً، عالماً أو رجل أعمال.
وأضرب مثالين: الأول فلسفي: لنأخذ كتاب الفيلسوف الألماني نيتشه، حول المفكر الإيراني القديم: هكذا تكلم زرادشت. ففي هذا الكتاب ما أنجزه نيتشه ليس الوقوف على مقاصد زرادشت أو شرح ما كان يريد قوله، بل هو قرأه قراءة جديدة خصبة وفعالة.
والمثال الثاني سياسي قدمه مهاتير محمد، الذي كان ذا فكر حي ورؤى مستقبلية، لذا شهدت ماليزيا في عهده قفزة تنموية خرجت معها من هامشيتها، لتصبح دولة مشهورة في العالم، بعدما صنعت نموذجاً جديداً للتطوير والتحديث.
في العالم العربي، ثمّة بلدان تملك ثروات هائلة طبيعية وبشرية وتراثية، ولكن مقابل نقص فادح في الأفكار الحية والخلاقة. الأمر الذي يجعلها غارقة في أزماتها، عاجزة عن ابتكار حلول لمواجهة التحديات الكبيرة والأخطار الجسيمة.
هذا النقص، على مستوى الأفكار والمعارف، سواء لدى الساسة أو لدى الفلاسفة، هو الذي يفسر الإخفاق الذي تحصده أكثر المجتمعات العربية بعد عقود من الأحلام الكبيرة.
والأزمة لا تقتصر اليوم على العالم العربي. هناك أزمة أيضاً على المستوى العالمي، تتبدى في غير مظهر: من الانهيارات المالية إلى استهلاك النماذج التنموية، ومن أزمة الديموقراطية إلى استفحال الظاهرة الإرهابية. ولا أنسى المشكلة البيئية التي باتت مصدر قلق على مصائر الإنسان والحياة والأرض.
هنا تأتي مسؤولية الفلاسفة والمشتغلين في حقول المعرفة. فهم إزاء تحدٍ مضاعف، عربياً وعالمياً.
أشير إلى أعطال أربعة، أولها تقديس الشعارات والمقصود به هو التعاطي مع عناوين الحداثة كالعقلانية والتنوير والتقدم بصورة تقليدية، باتت مستهلكة، بل ساذجة، قياساً على التحديات الهائلة والتحولات الكبيرة.
أما العطل الثاني فهو الخشية من المتغيرات. ومن المفارقات في هذا الخصوص، أن بعض المشتغلين بالفلسفة وعلوم الإنسان قدّموا أنفسهم، دوماً، بوصفهم دعاة تغيير للعالم نحو الأفضل والأجمل والأعدل. ولكننا نجدهم يفزعون من المتغيرات التي يشهدها العالم على غير صعيد.
ولهذا فهم يتشبثون بمقولاتهم بوصفها حقائق نهائية وثابتة لا تقبل التغيير أو التبديل، أما العطل الثالث فهو تغليب المهام النضالية على المشاغل المعرفية. هذا الفخ وقع فيه كثيرون نسوا مهمتهم الأصلية التي تقوم على إخضاع الواقع للدرس والتحليل، بالتحرر من المسبقات الإيديولوجية والهواجس النضالية، لإنتاج مفاهيم جديدة تشخص المشكلات بدلاً من تمويهها لكي تزداد تعقيداً واستعصاء.
أما العطل الرابع فيتمثل في عقدة الهوية، وكما تتجسد في خلع الطابع الجغرافي أو الديني أو القومي على الفلسفات وأنظمة المعارف. وهذا العطل هو من أخطر الأعطال التي شلّت طاقة الفلاسفة العرب على الإبداع والاختراع. لذا فالرهان هو كسر الحواجز وتفكيك العوائق، لجهة علاقة الفيلسوف العربي بمهنته، بحيث يتعاطى معها، كما يفعل بقية الفلاسفة في العالم، بوصفها عالمية. آن للفيلسوف الذي يكتب بالعربية أن يتحرر من المسبقات الإيديولوجية، المعيقة، لكي يتقن لعبة الإبداع والخلق.