«النظام- الفوضى» أحد الثنائيات التي تحظى باهتمام الدوائر العلمية والأكاديمية التي تعنى بدراسة ظواهر الطبيعة المتنوعة، التي يخضع بعضها لأنظمة في غاية الدقة، في حين يخضع البعض الآخر لفوضى غير مفهومة لا يمكن التعامل معها إلا عبر قوانين ذات طابع إحصائي.
أصبحت «الفوضى» فرعاً جديداً من فروع العلم، ووضعت العديد من النظريات لمقاربتها، للتعرف على النظام الخفي، الذي يكمن خلف ما يبدو عشوائياً من أحداث أو سلوكات على مستوى العالم الصغير جداً.
إلا أن هذا «الثنائي» في سياق آخر، اجتماعي أو سياسي، ليس بالإمكان التعايش معه بالطريقة نفسها لأن ركنيه لا يتعايشان فأحدهما يلغي الآخر، فبالقدر الذي يوفر «النظام» حياة مستقرة هادئة تضمن الأمن والاستقرار للفرد والمجتمع، وتسمح بالبناء والتطوير، تفرض «الفوضى» أجواء أخرى مدمرة على مختلف المستويات، وتعرض حياة الفرد وأمنه ومستقبله للمجهول.
هناك تعريفات عديدة لمصطلح «الفوضى» نكتفي فقط بالإشارة إلى ما نعنيه في سياق هذه المقالة، «الفوضى» هي الحالة التي تنشأ عن عدم الاعتراف بالمرجعيات القائمة، الدولة بشكل خاص، ورفضها والعمل على الانتقاص منها والتمرد على قوانينها.
هناك من يرى في الفوضى عنصر بناء، وهناك من يظن عكس ذلك، فمصطلح «الفوضى الخلاقة» لوسم الحالة العراقية بعد الغزو الأميركي، الذي ورد على لسان كوندليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأميركي مطلع عام 2005، بالتزامن مع مشروع إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بالتبشير بشرق أوسط جديد ليس مصطلحاً جديداً كما يظن البعض، فقد ورد في الأدبيات الماسونية القديمة بمعنى البناء.
استقبل العالم القرن الحادي والعشرين بآمال وتوقعات كبيرة، فنهاية الحرب الباردة قد أنعشت الأحلام بالتخفيف من التوترات الدولية وإبعاد شبح الاقتتال لصالح أجواء تسمح بتحقيق المزيد من التقدم في مجالات حقوق الإنسان وحقوق الشعوب في اختيار أنظمة الحكم. في هذه الأجواء جرى التركيز على الأنظمة الدكتاتورية الشمولية واستهدافها استكمالاً لما أنجزته الحرب الباردة.
إلا أن ما لا يمكن تجاهله هو أن سقوط الدكتاتوريات قد فتح الأبواب على مصراعيها أمام الفوضى، لتطل على ساحات معقدة دينياً وطائفياً وعرقياً وقبلياً في العراق وسوريا وليبيا واليمن في الوقت الذي تمكنت فيه تونس ومصر من الحفاظ على تماسكها لعدم تفكك جيشيها وتوزع ولاءاته. هناك رهانات تدور حول مستقبل هذه الفوضى وفي ما إذا كانت ستقود بعد أن تخمد حرائقها إلى أنظمة حكم ديمقراطية حقيقية أم تتمخض عن غير ذلك، فاللافت للنظر في هذا الصراعات الدموية هو غياب القوى التنويرية والليبرالية التي تحمل مشروع دولة المواطنة المدنية التي لا تؤمن بالعنف.
هذا يقودنا إلى التساؤل عن الأسباب التي جعلت ساحات هذه الدول أسيرة لقوى لا تنتمي لروح العصر ولا تؤمن بطروحاته من أمثال تنظيم داعش الأكثر شهرة والأوسع تأثيراً في ساحات الفوضى. في هذا الصدد لا أجد مبرراً للحديث عن المؤامرات الخارجية وعن الأطماع الاستعمارية أو عن من يقف وراء هكذا تنظيمات، فما يقوم به هذا التنظيم وغيره لا يتعارض مع بعض أهداف قوى خارجية تسعى لتفتيت المنطقة على أسس عرقية ودينية ومذهبية.
لم تعد تداعيات «الفوضى» تقتصر على الساحات التي تسيطر عليها بعد أن تسببت في حركات نزوح لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ولم تعد دول الجوار تعاني وحدها من وطأة ذلك، بل أصبحت أوروبا نفسها تشكو منها، وتخشى على أمنها وعلى اقتصاداتها من كثرة النازحين وطالبي اللجوء. ويبقى التساؤل قائماً: أنشهد فوضى خلاقة أم فوضى هدامة؟
* كاتب عراقي