حين نقرأ التاريخ عبر محطاته المضيئة والمظلمة نجد دعوات كثيرة للتغيير، تحمل قدراً كبيراً من الأفكار التي تحتاج إلى غربلة حقيقية، فهي رغم نبل المضمون الذي يظهر لنا إلا أنها قد يُدس السم بين ثنايا العسل.
من الأهمية بمكان أن نحدد الهدف من كل مرحلة من مراحل خطة النهوض بالأمم، فلكل مرحلة مدخلاتها ومخرجاتها وما يتخلل ذلك من عمليات، ربما أهمها من وجهة نظري اختيار فريق العمل المناسب الذي نظن بقدرته على تحقيق الأهداف ونؤمن بإمكاناته ويجب أن ندرك بأن لكل مرحلة رجالاتها.
إن الاختلال في عملية الممارسة للأدوار له انعكاساته السلبية على أي عملية إنسانية، ويلقي البروفيسور أحمد درباس بالمسؤولية على كاهل معطيات الحضارة والمدنية بقوله: «ربما الحياة المدنية ومعطيات الحضارة هي التي أفرغت الرجولة والأنوثة من معناهما إلى حد ما، واختلطت الأدوار بل وتم تبادلها بين طرفي المعادلة ـ الذكر والأنثى.».
وإذا نظرنا بعين الاهتمام للمفكرين نجد أن لهم دوراً مؤثراً في حياة المجتمعات والشعوب، فالمفكر هو ضمير عصره، وابن بيئته يؤثر فيها ويتأثر بها، ولو رجعنا بالتاريخ القديم لأدركنا صدق ذلك؛ ففي العصر اليوناني كان لأفكار سقراط دور هام في تغيير المجتمع الأثيني ومعتقداته، وأحدث ثورة فكرية تنويرية من خلال آرائه الفلسفية، حاور السفسطائيين وأظهر جهلهم، كما أرسى قيماً خالدة، ومات في سبيل مبادئه.
وكذلك أفلاطون في محاورته الشهيرة (الجمهورية)، كانت آراؤه الفلسفية بمثابة القوة الدافعة في تغيير الكثير من الأفكار في عصره، أخذ بها مفكرو السياسة فيما بعد، وهذا لما للمفكرين من أهمية في المجتمع، ولما يتمتعون به من قدرات عقلية ومواهب ذهنية في تشخيص مشكلات العصر، وكذلك قدرتهم على صياغة حلول لهذه المشكلات.
وقد كان لعلماء المسلمين دور لا يمكن إغفاله في الحياة الاجتماعية، فعلى سبيل المثال، نجد الكندي من خلال رسائله إلى المعتصم والتي لعبت دورا في إحداث تغيير في المجتمع، إذ لفت أنظار المعتصم لما يصلح للوطن والمواطن. وفي العصر الحديث نجد أفكار روسو ومونتسيكيو وفولتير كانت بمثابة المقدمات للثورة الفرنسية من مبادئ مثل الحرية والمساواة.
وكذلك أفكار «كانت» و«هيجل» لعبت دورا هاما في الحياة الألمانية وقد امتزجت هذه الأفكار بأفكار «بسمارك» وقادته نحو فكرة الوحدة الألمانية.
إن المفكرين والفلاسفة على مر العصور لم ينزووا عن مشكلات المجتمع، بل عاش الفلاسفة هموم عصرهم ومشكلات مجتمعهم وشخّصوها، وقد تجاوزوا ذلك باقتراح الحلول وقادوا المجتمع إلى التقدم والرقي.
إن الدور الذي كان يقوم به الفلاسفة انتقل إلى وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، ولست ضد ذلك، ولكن الحذر واجب في الاعتماد على ذلك؛ فالبحث عن الحكمة يجب أن تتم ممارسته من قبل مثقفين، وليس الأمر هنا على إطلاقه، فأنا أعني نخبة من المجتمع تتمتع بعين النحلة التي لا تقع إلا على قطعة السكر أو الوردة ذات الرحيق المتميز.
وبعد أن انتهينا من تشخيص المشكلات ننتقل إلى مرحلة حلّها، وهذه العملية لا تقل عن سابقتها، وأعني مرحلة التشخيص، فالحل يجب أن يُسند إلى من يمتلك خصيصة مهمة وهي القدرة على غرس قيم جديدة فالنهوض لا يكون باختراع جهاز وإنما بتغيير المفاهيم السلبية من النظر إلينا بأننا شعب يستورد إلى صورة جديدة نكون فيها شعباً يتصف بالاختراع والابتكار. إنني أتحدث عن المدرسة والمعلم.
ينبغي أن يكون للتعليم والتربويين دور محوري للنهوض بالأمم وبناء العقول إذا أردنا أن نسدّ الثغرات في المجتمع، وفي هذا السياق يقول أشلاغ والملقب بصاحب السلم: «إن الأمل الوحيد لدينا في مستقبل زاهر يكمنُ في تأسيس أسلوب جديد للتعليم التربوي لنا ولأولادنا لاكتشاف وإيقاد الأمل والرغبة في التجديد والإبداع التي وجدت فينا في الماضي وإعادة شعلة هذا الأمل في خلق عالم جديد نجد فيه السعادة والاكتفاء».
فالعلم هو الأداة لتغيير أفكار المجتمع، الإنسان المتعلّم يتغيّر تفكيره من نظرة إلى أخرى لتجعل منهُ يفكر في الأمر من ناحية أخرى وبطريقة غريبة تجعل منهُ ينظر إلى الأمور من الناحية الإيجابيّة البراقة لها.
جميع الدول المتقدّمة والتي تعدّ من أقوى الدول في العالم وأوّلها هي الدول التي تعتمد بشكل رئيس وبشكل كامل على العلم والتكنولوجيا التي وصلت إليها لتجعلها بين أوائل الأمم. فعندما يزداد العلم والمتعلّمين تتغيّر أوضاع البلاد من بلاد فقيرة إلى بلاد غنيّة بالموارد البشريّة والماديّة.
فعندما استطاع السوفييت الالتفاف حول القمر، أول ما قام به جون كينيدي أنه طالب التربويين بإعادة النظر في المناهج الدراسية، وقد استطاع أن يحط أول إنسان على سطح القمر نيل آرمسترونغ عام 1969 بسبب تطوير المناهج الدراسية.
إن النظرة الحديثة للمعلم قد تطورت من كونه مجرد ملّقن وناقل للمعرفة فقط، ليصبح قدوة ودعامة أساسية من دعامات الحضارة فهو صانع أجيال وناشر علم ورائد فكر ومؤسس نهضة وإذا كانت الأمم تقاس برجالها فالمعلم هو باني الرجال وصانع المستقبل، ولا عجب إذ ينادي رفاعة الطهطاوي بأن المعلمين هم خير من يمشي على تراب الأرض.
وفي هذا الشأن ينبغي لنا أن نضع الأطر والحدود الكفيلة نحو إدراك مراحل النهوض بدولتنا وأن ندرك بأن لكل مرحلة رجالاتها بحيث لا نقوم بالخلط بينهم وذلك وفقا لأدوارهم في المجتمع.
وفي الختام لا يسعني سوى أن ألخص السبيل نحو النهوض بالدولة في كلمات راقية صاغها المفكر مالك بن نبي: «إن تشريح التخلف لا يُنهي تلقائيا حالة التخلف. تشريح التخلف مهمة المفكرين، أما النهوض، فمهمّة الفئة الممتازة من التربويين.»
فلتعمل كل المؤسسات والهيئات والأفراد يداً واحدة لتسخير كل الإمكانات للتربويين ليعينوا الأمة على النهوض.