أعلم أنه وصف قاسٍ ومغلظ لا أرجوه لأي جماعة أو تيار سياسي، ولكن ماذا أملك في مواجهة جماعة استسلمت لمتوالية العنف المتصاعدة إلى اغتيال محامي الشعب فصارت إرهابية بدلا من كونها سياسية، ولمتوالية الكراهية إلى درجة النعيق فى كل مناسبة يمكن أن يفرح بها الشعب، فاستحالت وظيفية ولم تعد وطنية. إنها العنصرية نفسها التي تتشاركها الجماعة الإخوانية مع الحركة الصهيونية، عن طريق ادعاء صلة ما بالمقدس، الأولى تكريسا لشرعية سلطة دينية، والثانية خلقا لمشروعية دولة عنصرية، إذ رغم التباين الظاهري بينهما، تبدو المنطلقات الفكرية مشتركة لديهما.
أكثر المنطلقات تجسيدا لتشابههما يتمثل في الرؤية الاختزالية للتاريخ، ورغم أن دولة الاستبداد التقليدي (المملوكي والعثماني) تمتد فى ستة قرون تقريبا، قياسا إلى دولة الخلافة الراشدة التي كانت محض استثناء لم يدم أكثر من ثلاثة عقود، يسود الاعتقاد في إمكانية استعادة الاستثناء البعيد، تجاهلاً للتاريخ القريب، وهو نفس المنطق الاختزالي الكامن في الرؤية الصهيونية، التي تسقط تاريخا حقيقيا يمتد لآلاف السنين جسده العنصر العربي في الأرض المحتلة، وتُعول فى المقابل على لحظة (سحرية) بعيدة، شهدت دولة يهودية لا تؤيدها سوى رواية توراتية غالبا ما تتناقض مع حقائق التاريخ، وحتى في حال صدقها، فإنها لا تعدو لحظة عارضة في صيرورة ممتدة.
ويتمثل ثاني المنطلقات في عقلية الكهف التي نشأ عليها الطرفان. فالجسد الأساسي للحركة الصهيونية جاء من مجتمعات الشتات اليهودي في أوروبا الشرقية والوسطى، حيث عاش أغلب اليهود داخل «جيتو» في عزلة شديدة وخوف مقيم لم يتحرروا من بنيته المادية سوى مع شيوع فلسفة التنوير وهبوب الثورة الفرنسية، أما بنية الذهنية والنفسية فلا تزال تحاصرهم، إذ بقي لديهم شعور وجودي بالقلق ممن هم خارج الجيتو الجديد «فلسطين»، تسيطر عليهم عقدة القلق من فقدان هويتهم في المحيط الأوسع منهم.
وفي المقابل تتملك الجماعة عقلية الكهف نفسها بدافع رغبتها في تمييز نفسها عن عموم المصريين، ما فرض حصارها دائما، وأدى لحظرها غالبا، منذ العصر الملكي الذي شهدت نهايته عنفا كثيرا مُورس ضدها ومارسته هي ضد غيرها، وضمنه سلسلة اغتيالات طالت رجال الدولة في هذا العصر الذي لم ينتهِ قبل اغتيال مرشدهم المؤسس، وصولاً إلى العصر الجمهوري بمراحله الثلاث، حيث طورت الجماعة (جيتو ثقافي) بالمعنى العميق، فالحياة مغلقة على الأعضاء المنتمين إيديولوجيا، يسودها نوع من التراحم الذي تولده تجربة التعرض المشترك لنوع من الحصار.
ورغم أن الدين، في العموم، يوفر لكل معتنقيه نوعا من الشعور باليقين الناجم عن شعور المؤمن بالعناية الإلهية التي تكفل له نوعا من التضامن الرأسي مع الذات الإلهية نفسها، فإن الانتماء إلى مثل هذ الجماعات الدينية المغلقة يوفر مستوى آخر من التضامن «الأفقي» المؤسس على مستويات التنظيم بين أعضائها، وكذلك على علائق (تكافلية) توفر لهم نوعا من الأمن والحماية والتعزية عند الشدائد والملمات، تبلغ أحيانا حد تفضيل التزاوج الداخلي بينهم، وهو شعور طائفي صرف.
أما ثالث المنطلقات فينعكس في عقدة الاضطهاد التي طورتها الحركة والجماعة معا، في مواجهة مخالفيهم سواء من العرب الرافضين للدولة الإسرائيلية، أو للقوى المدنية الرافضة للدولة الدينية. أنشأت الحركة دولتها على أنقاض شعب آخر، في قلب عالم غريب عنها، ومن ثم كان طبيعيا أن يواجه هذا الشعب، مدعوما بانتمائه القومي، هجوم الاحتلال عليه، وأن تقع حروب وتدور دوائر، كما هي سنن الكون.
لكن، وفي المقابل، كان مفترضا أن تؤدي اتفاقات السلام إلى تجاوز عقلية الحصار وعقدة المؤامرة، وهو ما لم يحدث، فبقيت إسرائيل تبرر عدوانيتها بعقدة الأمن المسيطرة عليها، وهي عقدة حقيقية بالفعل وليست مفتعلة كليا، وإن تم توسيعها وتعميقها بغرض استغلالها، بل إنها فيما يبدو عقدة وجودية، لا يمكن تفكيكها من خارجها، ولا إزالتها إلا بعمليات تدريب تاريخي وعلاج نفسي لشخصية سياسية هي بالفعل غير سوية، وتسعى لتحميل الآخرين نتائج انحرافها.
أما الجماعة، فقد ظلت عقدة المؤامرة تحيط بها حتى في العام الذي تولت فيه حكم البلاد، حيث كان الرئيس ينتمي إليهم، وكذلك مجلس الشورى في أغلبيته الساحقة، كما كان البرلمان المنحل قبل قليل من الانتخابات الرئاسية، إلا أنهم استمروا يشعرون بعقدة الاضطهاد.
وأما رابع هذه المنطلقات فيتمثل في البرجماتية المفرطة التي تصل إلى حد الانتهازية. فالحركة الصهيونية لم ترسم لدولتها حدودا جغرافية واضحة، بل تركت لنفسها إمكانية التوسع حسب الجهد والطاقة، طالما كانت هناك فرصة للاقتحام.
غير أن تشابه المنطلقات هذا يحوي مفارقة كبرى، فالحركة الصهيونية نجحت، بعنصريتها، في إنجاز دولة بدت كقطب رحى للنشاط اليهودي العالمي، تجاوزا لتجربة شتات تاريخية بطول عمر المجتمعات الأوروبية، وتجربة اضطهاد مأساوية بحجم المحرقة النازية. أما الجماعة الإخوانية فأخفقت في إدارة شؤون دولة مركزية عريقة بالفعل، وبدلا من اعترافها بالفشل والسعي إلى تجاوزه، أخذت تنقض على من تصدوا لفشلها بقوة الكذب والإرهاب في الداخل، والتحريض والاستعداء في الخارج، أملاً في الحكم ولو على أنقاض الدولة وأشلاء الشعب، ولذا تبقى الإخوانية أغبى أشكال العنصرية!