حقائق جديدة على الأرض وواقع مختلف. اليوم ليس كالبارحة؛ فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر. الآن إيران تمارس اللقاءات علناً مع الشيطان الأكبر. ووفود الغرب تتسابق للفوز بالحصة الأكبر في عقود المشاريع الإيرانية. وشكل جديد يرسم لمنطقة الشرق الأوسط. هذه المنطقة التي أشغلت العالم بمشاكلها وحروبها ونزاعاتها التي لا تنتهي.

أميركا تمارس سياسة مختلفة في المنطقة؛ فهي التي كانت تحشد العالم لمقاطعة إيران وتهذيبها، الآن تسعى إلى إقناع الآخرين بالاتفاق النووي وترحل به مباشرة إلى مجلس الأمن حتى قبل موافقة الكونغرس الأميركي. إنها السياسة، الشيء المستحيل فيها أنه لا يوجد شيء اسمه مستحيل.

ويواجه العرب واقع جديد، فهذه إيران التي تمددت في الفضاء العربي وأصبح لها وجود مؤثر في دول عربية. واستخدمت مواردها وإمكاناتها وفي ظل الحصار لدعم ميليشيات وممارسة حروب بالوكالة. تخرج من قيود هذا الحصار في وضع تستطيع أن تستغله في سياسات أكثر توسعية وعدوانية، وربما هي لحظة تاريخية ومفترق طريق في المسار السياسي للمنطقة. فالسؤال الذي لم يعد يطرح هل سوف يتم الاتفاق أم لا. السؤال حقيقة ما الذي سينتج من هذا الاتفاق. وبغض النظر عن الآراء المتباينة حول بنود الاتفاق من تأييده أو معارضته؛ فحقيقة الأمور أن الاتفاق أصبح جزءاً من الواقع السياسي في المنطقة.

إيران دولة مهمة ولها تأثيرها ودورها المهم، ومن الخطأ وضع العلاقة مع إيران في دائرة الصراع الطائفي السني - الشيعي أو حتى في دائرة الصراع العرقي العربي - الفارسي. هذه أخطاء جسيمة ترتكب ويجتهد فيها بعض المتحمسين عن حسن أو سوء نية. لكن الخلاف بين الدول العربية وإيران هو خلاف سياسي بحت. ففي أوقات مختلفة، وفي ظل حكومات معتدلة في إيران، شهدت العلاقات الخليجية الإيرانية تحسناً ملموساً. ولكن مع تسلِّم السلطة المتشددين في إيران في الحكومة السابقة برئاسة أحمدي نجاد شهدت العلاقات توتراً وتباعداً في السياسات، وعانت إيران من عزلة سياسية دولية نتيجة سياساتها المناقضة لقانون العلاقات الدولية والأعراف الدبلوماسية.

وبعد تسلم السلطة الرئيس الإيراني حسن روحاني أعطى رسائل إيجابية لتوجهات سياسية مختلفة. ولكن حتى الآن لم تترجم هذه الإشارات إلى واقع سياسي في المنطقة. وربما كان الاتفاق النووي الذي تم أخيراً واحداً من الإنجازات السياسية المهمة للرئيس الإيراني. ولكن يظل السؤال: هل بالفعل الرئاسة الإيرانية هي التي تمتلك القرار أم خيوط اللعبة السياسية تظل في يد مرشد الثورة، وبالتالي يبقى هامش الحركة السياسية للرئيس الإيراني محدوداً.

إيران أثبتت في مواقف كثيرة أنها تمارس الواقعية السياسية متى ما تطلب الأمر. فحينما وصف الخميني قبوله وقف إطلاق النار مع العراق بأنه تجرع كأس السم، هو في الحقيقة نسف لكثير من المقولات التي رددها هو وأتباعه برفض وقف إطلاق النار، ولكنها الحقائق على الأرض التي فرضت واقعاً لا يمكن تجاهله. وهو نفس الشيء الذي كان يردده المرشد علي خامئني برفض التفتيش الدولي للمفاعلات النووية وعدم خضوع إيران للقيود الدولية، ولكن هو نفسه من هنأ فريق المفاوضات على نجاح الاتفاق وأعطى تأييده. إذن هي ليست الأيدلوجيا الثابتة بل هو التأقلم مع الواقع والمصالح حتى لو كان الثمن الانقلاب على ما مضى من تنظير وخطاب سياسي عاطفي للجماهير.

وإيران لديها اليوم فرصة ثمينة لرسم سياسي جديد في المنطقة. فقد أثبتت التجارب السابقة أن الحروب والتدخلات لم تفرز إلا واقعاً مأساوياً ونشوء إرهاب على شكل دول وفوضى عارمة في المنطقة. وهذا يتطلب النظر بشكل مختلف وتجريب مقاربة سياسية مختلفة، وهذا يستدعي شجاعة ومبادرة من جميع الأطراف في المنطقة.

لو استطاعت هذه المنطقة أن تتعاون من أجل التنمية ومشاريع النباء، وتوظف مواردها من أجل سعادة الإنسان لكان وضع المنطقة وتنافسيتها على مستوى العالم اختلفا. وربما يبدو هذا الحديث نوعاً من الطوباوية السياسية التي ترسم صورة مسالمة كمدينة أفلاطون الفاضلة أو مدينة الشمس لتوماسو كامبانيلا، ولكنها هي نفسها المحرضات التي جعلت (الأعدقاء) يتشاركون قاعة واحدة لأسابيع للوصول الى اتفاق كان في يوم من الأيام أشبه بالمستحيل.

من الجانب الآخر دول الخليج أمامها واقع سياسي مختلف، ويجب أن يرتقي العمل السياسي إلى مرحلة جديدة؛ فالمعطيات اختلفت، والحسابات الدولية تبدلت، وبالتالي ما عادت الأمور على ما كانت، ومن غير الصواب ممارسة نفس السياسات في الواقع الجديد.

دول الخليج عليها تعزيز ترابطها السياسي الموحد، والنجاح الذي أثبتته المنظومة الخليجية في عاصفة الحزم هو أساس جيد لمواقف سياسية واحدة وفعل سياسي واقتصاي وعسكري متجانس. والفعل السياسي الذي اتخذته السعودية بالانفتاح على دول العالم وجعل المصالح هي التي تربط الدول، مثل توجهها مع روسيا، صورة ناجحة للعمل السياسي الواقعي الذي يجعل عربة المصالح هي التي تقود السياسة، ودول الخليج مجتمعة لديها إمكانات هائلة ورصيد سياسي قوي وتأثير دولي مهم.

ربما هو واقع سياسي جديد، ولكنه ليس بالضرورة سلبياً. ففي ظل المتغيرات هناك فرص وأبواب جديدة تنفتح تحتاج إلى مبادرة ورؤية متجددة وقرار سريع يبنى للمستقبل ويستوعب دينامية المتغيرات.