«ثورة 23 يوليو» التي قادها جمال عبد الناصرالعام 1952 كانت من حيث الموقع الجغرافي في بلدٍ يتوسّط الأمّة العربية.
كذلك، فإنّ ثورة 23 يوليو، من حيث الموقع الفكري والسياسي، كانت حالاً ثالثة تختلف عن الشيوعية والرأسمالية، قطبيْ العصر الذي تفجّرت فيه الثورة، فقادت «ثورة 23 يوليو» ثورات العالم الثالث من أجل التحرّر من كافة أنواع الهيمنة وبناء الاستقلال الوطني ورفض التبعية الدولية. أحاطت بالتجربة الناصرية ظروف معيقة لحركة «ثورة 23 يوليو»، كان أبرزها حال التجزئة العربية والتعامل مع الشعوب العربية إمّا من خلال الحكومات أو بأجهزة المخابرات المصرية، وفي ظلِّ حربٍ باردة بين المعسكرين الدوليين، حيث تركت هذه الحرب بصماتها الساخنة على كلّ المعارك التي خاضها عبد الناصر.
كذلك، فإنّ ساحة وحركة وأهداف ثورة 23 يوليو الناصرية كانت أكبر من حدود موقعها الجغرافي المصري.. فقد كانت قضاياها تمتدّ لكلّ الساحة العربية، وأيضاً لمناطق أخرى في أفريقيا وآسيا. لذلك، فإنّ «23 يوليو» بدأت ثورة مصرية، ونضجت كثورة تحرّر عربية وعالمية، ثمّ ارتدّت بعد وفاة ناصر إلى حدودها المصرية.
ومن المهمّ إدراك أنّ السياسة العربية لمصر في فترة حكم عبد الناصر كانت مرتبطة بالمراحل والظروف المتغيّرة رغم القناعة المبدئية بالعروبة لدى القيادة الناصرية. فثورة 23 يوليو حصلت عام 1952 دون أيّ ادّعاء بالعمل من أجل أيّ قضيةٍ عربية، وكانت الأهداف الستَّة للثورة المصرية الّتي أُعلنت حين قيامها خالية تماماً من أي موضوع عربي، وتمحورت جميعها على قضايا داخلية مصرية. ولم يظهر البُعد العربي واضحاً في ثورة ناصر إلاّ بعد تأميم قناة السويس ثمَّ العدوان الثلاثي (البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي) عام 1956 على مصر.
فبعد هذه السنوات القليلة من عمر الثورة المصرية ظهر الالتفاف الشعبي العربي الكبير حول القيادة الناصرية، واشتعل تيّار القومية العربية في أرجاء البلدان العربية كتيّار مرتبط بمطلب الاستقلال الوطني والتحرّر من الاستعمار.
جاءت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 تتويجاً لهذه المشاعر التحرّرية القومية، وقامت الجمهورية العربية المتحدة بناءً على ضغط الشارع العربي عموماً والسوري خصوصاً من أجل انضمام سوريا للقيادة الناصرية في مصر. لكن عقد الخمسينات الذي تميّز بمعارك التحرّر الوطني والاستقلال وبانطلاقة التيّار القومي العربي، تعرّض لنكستين كبيرتين في مطلع عقد الستينات وأواسطه، وانتهى هذا العقد بوفاة من قاد هذه المعارك التحرّرية.
النّكسة الأولى، كانت بحقّ الجمهورية العربية المتحدة حيث قادت جماعة انفصالية في سوريا حركة الانفصال عن مصر يوم 28/ 9/ 1961، ثمَّ جاءت النّكسة الثانية يوم 5/6/1967 حيث جرت هزيمة حرب يونيو. أمّا هزيمة عام 1967، فقد أعلن ناصر تحمّله المسؤولية الكاملة عنها.
كان من دروس هزيمة 1967 وانفصال عام 1961، أنّ البناء الداخلي السليم وتحقيق المشاركة الشعبية الفعّالة في الحياة السياسية، هما الأساس للحفاظ على أي تجربة تكاملية بين البلاد العربية، وهما أيضاً الأرض الصلبة لقيادة حركة التحرّر من أيِّ احتلال أو هيمنة خارجية. لكن هذه الدروس المهمّة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر، وها هي الأمّة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي في معظم البلاد العربية مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها.
وها نحن الآن في الذكرى 63 لثورة 23 يوليو، نجد أنّ مصر تغيّرت، والمنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد في عموم المجالات متغيّراتٍ جذرية.. لكن رغم كلِّ تلك المتغيّرات يستمرّ الحنين العربي إلى حقبة الكرامة والعزة والتوحّد، ويتوا صل الأمل بعودة مصر إلى موقعها العربي الريادي الذي كرّسته «ثورة يوليو» ولم تتمّ بعدَ جمال عبد الناصر المحافظة عليه.