منذ فترة طويلة والعلاقات الدولية كان يحكمها مفهوم التوازن في القوة الذي نظَّرَ له مُنظّرو الواقعية في السياسة الدولية. فالعلاقات الدولية هي علاقات سعي لكسب مزيد من القوة، لاسيما العسكرية في سبيل تحقيق التوازن مع قوة الدول الأخرى المنافسة.

إلا أن ستيفين والت - أحد مُنظّري الواقعية الجديدة - أحدث نقلة في هذا التفسير عندما أدخل مفهوم التوازن في التهديد باعتباره عنصراً مُهماً لفهم علاقات الدول والأكثر تفسيراً لحال الأمن بينها. فالدول تسعى لزيادة قدراتها العسكرية لتحقيق التوازن ليس في القوة وإنما في التهديد، فهذا التفسير يربط بين سعي الدولة إلى زيادة قوتها العسكرية من أجل زيادة قدرتها التهديدية مع الدول الأخرى. وهذا ما يمكن أن يُفسر لنا الوضع القائم في منطقة الخليج العربي اليوم.

لقد ظلت دول الخليج العربي الأعضاء في منظومة مجلس التعاون الخليجي تعتمد في نظرتها في علاقتها مع الدول الكبرى في الإقليم وما حوله وفقاً لنظرة السعي لتحقيق التوازن في القوة. فهي كانت تعمل على رفع قدراتها العسكرية والسياسية والإقتصادية والثقافية في مواجهة قوة الأطراف الأخرى العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية؛ ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى نتيجة تردع من خلالها توغلات الدول الأخرى في الشأن الخليجي.

فرفع قوتها في مختلف تلك المجالات لم يضمن الأمن لها بل وجدنا أن دول مثل إيران تتوغل في الشأن العربي لنشر فكر مشروعها، حتى وصل بها الحال إلى التوغل في ضرب نسيج الوحدة الوطنية في داخل دول الخليج العربي، وأن يصل بها الحال كذلك إلى دعم نفوذها ووجودها في الدول المحيطة بدول الخليج العربي كالعراق واليمن. فالتوازن في القوة لم يودِ الغرض المطلوب منه في كبح جماح سياسات الدول الأخرى الساعية لإلحاق الضرر بدول الخليج العربي.

فكان لا بد من التحول من فكرة الإعتماد على استراتيجية السعي للتوازن في القوة إلى استراتيجية تحقيق التوازن في التهديد، أي استخدام ذات اللغة التي يستخدمها الخصم، وهذا ما حدث، وياله من تغير أدى إلى نتائج من نوع آخر.

لقد ظلت لغة التهديد هي اللغة السائدة لدى الدول الإقليمية المحيطة بدول الخليج العربي والتي تعمل على نشر فكرها المخالف لفكر الدول الخليجية وعلى الترويج لمشروعها المُضِرّ بمشروع الدول الخليجية. لغة التهديد هذه ما كان يمكن أن تُكبح إلا بمواجهة من ذات الطبيعة، أي أن يكون السعي لرفع قوة الدولة هو من أجل مواجهة ليس فقط قوة الدول الأخرى وإنما تهديداتها أيضاً.

لقد كان العمل الخليجي المشترك ولاسيما ذلك الذي جاء كنتاج للتعاون الإستراتيجي القوي القائم بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في مواجهة التهديدات الخطيرة لأمن المنطقة الخليجية هو ثمرة فكرة تحقيق التوازن في التهديد. فالبحرين العربية، الخليجية، المسلمة، المسالمة كادت أن تنجرف نحو المشروع الفارسي، الإيراني، الطائفي لولا قوة الرد الخليجي الذي كشر عن أنيابه بمواجهة التهديد بالتهديد.

ومصر العربية، ومركز الثقل السياسي العربي كادت أن تنجرف وراء مشاريع تنظيم الإخوان المسلمين المُضِرة بأمن الدولة الوطنية في المنطقة العربية لولا وقفة الخليج العربي مع الشعب المصري الرافض لمشاريع المغامرات الثقيلة على كاهله المُثقل بمشاكل لا حدود له.

واليمن عُمقُ دول الخليج العربي الإستراتيجي كاد أن يكون خنجراً ساماً في خاصرة المنطقة الخليجية لولا حزم دول الخليج العربي وعاصفتها التي هبت لنصرة اليمن من مغبة زرع الطائفية في أرضه.

ويضاف إلى ذلك بالطبع ما يحدث في سوريا من قتل وتنكيل بحق الشعب الأعزل يقوم به النظام السوري ومعه حلفاؤه من الخارج من عناصر تحمل شعارات طائفية من كل من إيران ولبنان والعراق وباكستان وافغانستان.

إن إستراتيجية التوازن في التهديد التي اتبعتها دول الخليج العربي نجحت نجاحاً كبيراً في تحقيق هدفها. فإيران اليوم هي في أضعف حالاتها في كل تلك المناطق. فهي بعيدةٌ كل البعد عن التوغل في البحرين؛ ومشروعها في مصر بعيدٌ كل البعد عن النجاح؛ وهي مشلولةٌ في اليمن كل الشلل، وغيرُ قادرة على أن تصل إلى حلفائها هناك؛ وهي مُجهدةٌ في سوريا ومهزومةٌ في العراق.

فكل هذه الانتكاسات ما كان يمكن أن تتحقق لو لم تقم دول الخليج العربي بنقل نظرتها في التعامل مع التدخلات الإيرانية في المنطقة من فلسفة الاعتماد على استراتيجية التوازن في القوة إلى استراتيجية التوازن في التهديد.

فدول الخليج أثبتت أنها قادرةٌ اليوم على أن تواجه التهديد بالتهديد، وهو ما يجعل الأطراف الأخرى تتراجع وتفكر ملياً قبل أن تفكر في خطوتها القادمة. ولا نبالغ إذا ما قلنا بأن هذه الانتكاسات أثرت على قرار طهران بالتوجه إلى قبول الاتفاق النووي مع القوى الكبرى الذي تم التوصل إليه خلال هذا الشهر، فهي بحاجة إلى استعادة بعض من عافيتها بعد أن أُجهدت في كل الجبهات.