كان الاتفاق النووي الذي تم التوقيع عليه أخيراً، في العاصمة النمساوية فيينا بين إيران والدول الخمس زائد واحد، أبرز الأحداث التي شغلت العالم في الأيام الأخيرة ترحيباً أو رفضاً أو تحفظاً. فهو من الاتفاقات غير الحاسمة، حيث تم تأجيل ما كان متوقعاً حصوله خلال أشهر قليلة لمدة عشر سنوات. أزمة البرنامج النووي الإيراني ستبقى كامنة لحين عودتها للظهور، ربما بشكل أقوى، بعد انقضاء تلك المدة، لأن إيران ستعود إلى ممارسة ما أجبرت على تأجيله وهو تخصيب اليورانيوم على نطاق واسع.
هناك ما يزيد على الخمسمئة مفاعل نووي قيد العمل أو تحت الإنشاء حول العالم، وهي بحاجة للوقود وهو اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة حسب تصميم المفاعل. وهذا الوقود ينتج في محطات التخصيب الموزعة في ستة عشر بلداً في العالم من بينها الأرجنتين والبرازيل والهند والباكستان وكوريا وإيران.
إلا أن هناك بعداً عسكرياً قد يرافق هذه العملية بعض الأحيان، وهو الطموح لتجاوز ما هو مسموح من أجل تصنيع رؤوس نووية على الرغم من الالتزام الظاهري بنصوص الاتفاقية. كان العراق من الدول التي سعت لذلك، ومنذ عام 2003 وضعت إيران في دائرة الشبهات حين اكتشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنشطة نووية خفية لم يعلن عنها. اتفاق فيينا لا يبعث على الطمأنينة من وجهة نظر دول عدة.
من المتوقع أن تشهد الحقبة القادمة الكثير من العقبات في الولايات المتحدة وفي إيران أمام تنفيذ هذا الاتفاق، فهناك العديد من الشكوك تدور حول ذلك. فهل يستطيع الكونغرس الأميركي ذو الأغلبية الجمهورية الرافضة للاتفاق إيقاف تنفيذه؟ وهل سينجح الفرقاء في تنفيذه على أرض الواقع من غير عوائق وتشنجات؟!
ورغم أن المخاوف الآنية قد تراجعت إلا أنها ستعود للظهور بعد انتهاء فترة العشر سنوات التي حددها الاتفاق بخصوص ما يتاح لإيران من قدرات تقنية نووية، خصوصاً أن عشر سنوات هي فترة وجيزة جداً في عمر الدول وفي الحسابات السياسية الاستراتيجية الإقليمية والدولية.
إن توسع نفوذ إيران في عدد من الدول العربية وتدخلاتها المستمرة في شؤون دول أخرى، جلب المنطقة إلى حالة عدم استقرار خطيرة أصبحت تهدد أمن العديد من دولها، ما سيضع البعض منها أمام مسؤولياتها التاريخية إزاء شعوبها، وهو ألا تسمح لمعادلات التوازنات أن تميل لغير صالحها وهي التي تحظى بأهمية استراتيجية في المنطقة سياسياً واقتصادياً. هذه الدول سوف تسعى هي الأخرى للحصول على الخبرات والتقنيات النووية ومنها تخصيب اليورانيوم، ففترة العشر سنوات كافية لدول تمتلك إرادة سياسية ولديها التصور الاستراتيجي السليم لقضايا أمنها القومي، حاضراً ومستقبلاً، وتمتلك القدرات الاقتصادية لأن تغلق ثغرة التفوق الإيراني في هذا المجال الحيوي، فليس هناك من ضمان لأمن أي دولة غير قدراتها الذاتية في التصدي والردع لمن يهدد أمنها.
اتفاق فيينا ليس مجرد تسويات تتناول قضايا تقنية بل هو انفراج تاريخي في العلاقات الأميركية الإيرانية يسمح لإيران تدريجياً بالعودة للأسرة الدولية والانخراط في الاقتصاد العالمي. فالقضايا الأخرى العالقة بينهما أقل أهمية ويمكن تسويتها من خلال صياغة استراتيجية جديدة لإدارة الرئيس أوباما في الشرق الأوسط للمدة المتبقية من رئاسته، وهو ما أشارت إليه «وول ستريت جورنال» أخيراً. فمنذ الخطاب الذي ألقاه الرئيس أوباما في جامعة القاهرة عام 2009 وفي مناسبات عدة لاحقة دأبت إدارته على التنويه بهذا الشكل أو ذاك بأن على دول المنطقة إجراء الإصلاحات والاعتماد على أنفسها. ولسنا مجافين للواقع حين نقول إن منطقة الشرق الأوسط لن تكون بعد توقيع هذا الاتفاق كما كانت.
هناك عقبة أمام التطبيع التام مع إيران فاستمرار الخطاب المعادي للولايات المتحدة على أعلى المستويات في الدولة والتمسك بشعار «الموت لأميركا وإسرائيل» قد يعيقان ذلك، إلا أنه من المتوقع أن نشهد تراجعاً تدريجياً في حدة هذا الخطاب. من جانب آخر وعلى خلاف ما يطرح في الشارع من شعارات، فإن إسرائيل حصلت على أكثر من تطمين على أمنها، كان آخرها ما ورد على لسان وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف رداً على خطاب نتنياهو في الكونغرس الأميركي، حيث قال: «إيران لا تريد القضاء على أي أحد، ولم ولن تهدد أي دولة ما لم تتعرض للهجوم».
ومهما تباينت الرؤى في قراءة اتفاق فيينا، فإنه سيطلق من غير شك، سباقاً للتفوق في التقنية النووية السلمية مع كل ما يفتحه هذا السباق من آفاق ليصبح بعد حين مصدر قلق كبير في هذه المنطقة المشحونة بالفتن والمشكلات.