الثورة المعلوماتية غيرت من طرق التواصل في المجتمع، وساهمت في سقوط أنظمة حكم، وتلعب دوراً في خلق الرأي العام وتوجيه القرار السياسي. ومنحت ثورة تكنولوجيا المعلومات فضاء جديداً للتعبير وطرح الآراء وساحة للنقاش، وهو يمثل في دول كثيرة نمطاً جديداً لم يعتد عليه الناس.

وكذلك يبدو أنه فاجأ الحكومات التي لم تتوقع أن يكون لهذه التقنيات هذا الدور والتأثير. هذا الواقع الجديد فرضته ما يسميه الكاتب ماكلوهان الحتمية التكنولوجية التي أوجدت معطيات جديدة وهزت مفاهيم راسخة في صناعة الإعلام.

واستطاعت شبكات التواصل الاجتماعي أن تكسب زخماً، وأصبحت دول المنطقة من أعلى دول العالم في معدلات استخدام هذه الشبكات، حتى إن الشركات الأم اهتمت بهذه الأسواق، وأصبحت تضعها ضمن أولوياتها، نظراً للطلب العالي. وهذا الانغماس المفرط في شبكات التواصل له أسبابه ونتائجه.

وأصبح يلعب دوراً في بعض الأحيان بديلاً عن الإعلام التقليدي، ولذلك أصبح يطلق عليه الإعلام البديل. وبحكم طبيعة التقنيات وعدم القدرة على السيطرة على محتواها، أصبحت فضاء لكل التيارات، بل وكشفت عن سلبيات موجودة في المجتمع. واستخدمتها بذكاء أيضاً المنظمات الإرهابية كوسيلة لاستقطاب عناصر خاصة من صغار السن والتغرير بهم.

وهكذا، تحول هذا الفضاء، الذي كانت الحكومات تتعامل معه بتجاهل في البداية، إلى مصدر خطر ووسيلة تهديد، وعجزت عن إيجاد الوسائل المناسبة للتعامل مع هذه التطورات.

وينظر البعض لتوجهات الآراء في شبكات التواصل، على أنه مؤشر للرأي العام، خاصة في الدول التي تنعدم فيها المؤسسات الحزبية ومؤسسات رصد الرأي العام، فتصبح شبكات التواصل البديل لمعرفة توجهات المجتمع. ويعتقد البعض أنه يجب التعامل مع هذه الشبكات والاعتراف بها بحثياً كمؤشر، وتضمنيها ضمن مؤشرات التحولات الجماعية.

وهنا خطورة استخدام هذه الشبكات كمؤشر مرجعي لقياس الرأي العام. فجهات مختلفة، وحتى أفراد، أصبحوا يستخدمون هذه الشبكات كوسيلة لتوجيه الرأي العام، وربما التشويش على صانع القرار بإظهار توجهات غير حقيقية، ولكنها من جهات منظمة، ولديها نفس طويل وقدرة على استخدام هذه التقنيات، ما يصور الأمر على أنه توجه جماعي، وهو في الحقيقة فئوي وغير عاكس لحقيقة توجهات المجتمع ككل.

ويتضح أن عالم شبكات التواصل أصبح مجالاً للحروب الفكرية بين تيارات، وكل تيار يحاول قدر الإمكان اكتساح هذا الفضاء، وتصوير المجتمع على أن معظمه يؤمن بأفكاره. وأصبح أيضاً مجالاً للشحن الطائفي بصورة مخالفة لطبيعة المجتمعات في المنطقة.

والجهات المنظمة داخلياً، خاصة التي لديها عقيدة أيديولوجية مشتركة، تتفنن في صنع الحملات العامة Campaign، وتوجيه أتباعها بشكل أو بآخر حسب رؤيتها. وبالتالي، تبدو الصورة للمراقب وكأن معظم المجتمع يدور في هذا الفلك.

وهناك أيضاً من يستخدم هذه الشبكات للتركيز على أهداف محددة، كاستهداف شخصيات معينة، والهجوم عليها وتشويه صورتها Character assassination، وربما تكون لمصالح شخصية، وهذه واحدة من سلبيات استخدام هذه الشبكات.

ومن المهم أن تكون هناك رؤية أكبر لتحليل هذا المحتوى، وعدم الاعتماد عليه كمؤشر، لأنه ربما يدفع صانع القرار لاتخاذ قرارات مبنية على تصورات غير دقيقة.

خاصة أن هناك أفراداً وجهات شعرت أن تأثير المحتوى مهم، فأصبحت تستخدمه كوسيلة للوصول إلى أهدافها. وهذا الاعتقاد يدفع حتى الأفراد إلى محاولة الظهور بوجود أكبر عدد من المتابعين، فيتمادى بكل الوسائل لاستقطاب متابعين، حتى لو بوسائل غير نزيهة.

شبكات التواصل الاجتماعي نقلة نوعية في صناعة الإعلام وتبادل الأفكار في المجتمعات. لكن الاستخدام لهذه الوسائل يتباين من مجتمع إلى آخر، حسب نضوجه ومستوى التعليم ووجود قنوات ووسائل للتعبير أخرى. وما زال استخدام هذه الشبكات في مجتمعاتنا بعيداً عن مرحلة النضوج. وبالتالي، لا يمكن الارتهان إليها كمرجعية لقياس الرأي العام أو أرضية لاتخاذ قرار سياسي.

إن وجود الإعلام الجديد بمجمله، تطور إيجابي، وساهم في رفع مستوى حرية الرأي والتعبير حتى للإعلام التقليدي، وأعطى مساحة للتعبير لكثير من مكونات المجتمع. وكان من الممكن أن يمثل مؤشراً مهماً ضمن مؤشرات أخرى لتوجهات الرأي العام، لولا أن هذا الفضاء أصبح مستباحاً بشكل انتهازي، وهناك جهات، بل ودول، تستخدمه كوسيلة للتشويش وخلق أجواء من التوتر والشحن في المجتمعات، ضمن وسائل الحروب الخفية.

ويظل تطوير صناعة الإعلام بشكلها العام، وإعطائها المزيد من الحرية والمرونة، مدخلاً مهماً لدعم الإعلام الذي يكتسب شرعيته من خلال وجوده ككيان قائم له حقوق وعليه مسؤوليات. وبالتالي، يستطيع أن يكسب اهتمام وثقة الجمهور العام. ويصبح مرجعية تمتلك مصداقية وتؤثر في صناعة القرار، بل وتعكس بدقة توجهات ورغبات الرأي العام.