أثبتت التجارب التاريخية أن ارتفاع معدلات النمو يتطلب زيادة كبيرة فى حجم الاستثمارات المحلية سواء بتمويل محلي أو أجنبي، وقد استطاعت الصين أن تحقق معجزة اقتصادية في الربع الأخير من القرن العشرين لأنها تمكنت من تحقيق معدل للاستثمار يتراوح بين 30 ـ 35% من الناتج المحلي لمدة ثلاثة عقود منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي.

وقبل الصين كانت هناك كوريا الجنوبية وغيرها من النمور الآسيوية والتي حافظت على معدلات للاستثمار فى حدود 30% من الناتج الإجمالي خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، وإذا كانت (النمور الآسيوية) استطاعت ـ مع إيجاد المناخ الاستثماري المناسب ـ جذب الاستثمارات الأجنبية فإن الصين.

في ظل نظام صارم استطاعت أن تحقق معدلات عالية من الادخار المحلي مع مستوى بالغ الانخفاض للأجور، وبشكل عام فإن زيادة الاستثمار بمعدلات تتناسب مع ما حققته دول جنوب شرق آسيا، يتطلب ـ من الناحية العملية ـ القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية بمعدلات مرتفعة، الأمر الذي يتطلب إيجاد بيئة استثمارية مناسبة لجذب هذه الاستثمارات الأجنبية.

ومما لا شك فيه أن جذب الاستثمارات الأجنبية يتطلب إيجاد مناخ استثماري مناسب لهذه الاستثمارات سواء في النظم القانونية أو تيسير الإجراءات الإدارية وسهولة المعاملات الإدارية وبوجه خاص توفير عناصر البنية الأساسية مادية (طرق ـ اتصالات ـ طاقة..الخ)، أو بشرية (عمالة مدربة وجادة..) .

ولكن هناك أيضا عنصر أساسي لجذب الاستثمارات الأجنبية وهو وجود قطاع تصديري ناجح وفعال وقادر على المنافسة والاتساع، فالمستثمر الأجنبي وقبل أن يقرر الدخول في استثمارات محلية عليه أن يتأكد من إمكان الخروج من السوق المحلية إذا لاحت له فرص أفضل في أماكن أخرى.

ومن هنا أهمية أن يكون البلد المستورد لرأس المال الأجنبي قادرا على توفير العملات الأجنبية عند الطلب، وبذلك نستطيع أن نفهم السبب في تركز الاستثمارات الأجنبية في القطاعات القادرة على توليد عملات أجنبية مثل استثمارات البترول والغاز أو السياحة.

ولكن وجود قطاع تصديري ناجح لا يساعد فقط على جذب الاستثمارات الأجنبية لما يتوافر له من موارد من العملات الأجنبية، بل إن استمرار هذا القطاع في التصدير دليل على كفاءته الإنتاجية وقدرته التنافسية الدولية، ومن ثم يقدم الدليل على إمكانية نجاح الاستثمارات الجديدة فيه.

خاصة إذا كان هذا القطاع في الصناعات التحويلية والتي تعتمد على الكفاءة والقدرة على المنافسة، وهذا ما نجحت فيه الصين ومن قبلها كوريا الجنوبية ونمور جنوب شرق آسيا وأخيرا الهند وربما تركيا وجنوب إفريقيا، وهكذا فالنجاح في التصدير هو أحد أهم معالم النجاح الاقتصادي.

وإذا نظرنا إلى تاريخ الحضارة المعاصرة منذ الثورة الصناعية، فإننا نجد أن أكثر الدول نجاحا كانت دائما التي أولت الصادرات والتجارة الخارجية أهمية كبرى في مسارها السياسي والاقتصادي، فالثورة الصناعية وقد بدأت في إنجلترا اعتمدت على التجارة الخارجية والمنافسة على الأسواق وكانت فرنسا ـ فى ذلك الوقت ـ هي المنافس الأكبر لها وهى دولة أكبر سكانا وأغنى موارد طبيعية ولا تقل عنها علما ولكنها كانت أقل منها انفتاحا على الخارج.

وعلى حين جاء المفكرون الفرنسيون في الاقتصاد، خاصة ما يعرف بالفيزوقراط، بالقول بأن جوهر الاقتصاد هو الزراعة والأرض، فإن المفكرين الإنجليز بدءا بما عرف بالتجاريين الذين وجدوا في التجارة أساس النجاح حتى ظهر آدم سميث، مؤكدا أن المنافسة هي سبيل التقدم.

وقد انفتحت إنجلترا على التجارة الخارجية وتوسعت فيها، حتى بقوة الأسطول، ولم يكن غريبا أن تتقدم إنجلترا في ميدان الاقتصاد وتتخلف وراءها فرنسا، وعندما بدأت المنافسة في أوروبا بعد ظهور الثورة الصناعية في إنجلترا.

فإن من لحقها فى السباق لم تكن فرنسا ذات الموارد الكبيرة ولكن ألمانيا التي اعتمدت على التصدير والصناعة، ومع بداية القرن العشرين ظهر لاعب جديد من شرق آسيا عندما نهضت اليابان الفقيرة في الموارد الطبيعية حين اعتمدت على التصدير والتجارة الخارجية وربما الاستثناء الوحيد من هذا التوجه هو الولايات المتحدة التي ظلت ـ حتى الحرب العالمية الثانية ـ معتمدة على سوقها الداخلية والى حد ما على أسواق الأميركتين، ولعل ما يبرر هذا التوجه أن الولايات المتحدة هي أشبه بالقارة ومع ذلك فمنذ نهاية الحرب الثانية انفتحت الشركات الأميركية على العالم بقوة.

وعندما ولد الاتحاد السوفييتي كان بدوره يمثل ـ هو الآخر ـ ما يشبه القارة المتكاملة، فأوجه الشبه بين الولايات المتحدة وروسيا (الاتحاد السوفييتي) متقاربة، مما دعا المفكر الفرنسي المشهور دى توكفيل إلى التأكيد في نهاية كتابه عن «الديمقراطية في أميركا» 1832 إلى القول بأن العالم سيحكمه في النهاية دولتان: الولايات المتحدة وروسيا.

أما الولايات المتحدة فإنها لم تكتف بقارتها الواسعة، ولا حتى بأميركا الجنوبية، بل أنها ـ بعد الحرب العالمية ـ انفتحت على العالم لتصبح أحد أهم اللاعبين في التجارة والتمويل العالمي، في حين انكفأ الاتحاد السوفييتي على نفسه في اقتصاد مغلق غلبت عليه البيروقراطية في نظام اقتصادي قائم على الأوامر الإدارية بعيدا عن المنافسة.

فتخلفت قدراته التكنولوجية (باستثناء الإنتاج الحربي) حتى سقط النظام قبل نهاية القرن العشرين، وجاءت تجربة الربع الأخير من القرن العشرين لتظهر ماردا جديدا في شكل الاقتصادات الناشئة في جنوب شرق آسيا (كوريا الجنوبية وسنغافورا وتايوان وماليزيا)، ثم ظهرت الصين والى جانبها البرازيل والهند وإندونيسيا وكلها تعتمد على دعم التجارة الخارجية والمنافسة.