ستعود القضية الفلسطينية من جديد إلى أروقة الأمم المتحدة مع نهاية هذا الشهر الذي يشهد انعقاد دورة الجمعية العامة، رغم تكرار هذا الأمر عشرات المرات في العقود الستة الماضية دون تنفيذ الحدّ الأدنى من قرارات دولية متعدّدة بشأن حقوق الشعب الفلسطيني، والذي يعاني بعضه المقيم على أرضه من عسف الاحتلال، وبعضه الآخر من ظلم وقهر اللجوء والتشرّد في بقاع العالم لأكثر من ستين عاماً.

الأمم المتحدة هي التي شرّعت أصلاً الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين، ولم تُجبر هذه المؤسسة الدولية «وليدها الأممي المصطنع» على احترام وتنفيذ أي قرارات صادرة عنها!. ولم تنفّذ أي حكومة إسرائيلية قرارات عديدة صادرة عن الجمعية العامة أو عن مجلس الأمن خاصّة بالقضية الفلسطينية!.

لكن الملفت للانتباه أنّ انعقاد الجمعية العامة هذا العام يحدث في ظلّ تطوّرٍ هام هو توقيع الاتفاق الدولي مع إيران بشأن ملفها النووي، وبعد خلافٍ كبير بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو حول كيفيّة التعامل مع الملف الإيراني.

طبعاً، ليست هي المرّة الأولى التي تتباين فيها المواقف بين واشنطن وتل أبيب، فقد حدث ذلك في مطلع عقد التسعينات بين إدارة جورج بوش الأب وبين حكومة شامير، ثم تكرّر الأمر في نهاية العقد نفسه بين إدارة بيل كلينتون وحكومة نتانياهو، كما حدث خلاف علني كبير بين الولايات المتحدة وإسرائيل في العام 1956 حينما رفض الجنرال أيزنهاور العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر، وأجبر آنذاك إسرائيل على الانسحاب من سيناء.

لكن رغم هذه الخلافات المؤقتّة التي حدثت وتحدث بين الحليفين الأميركي والإسرائيلي، يظلّ الضغط الإسرائيلي الفاعل حاضراً داخل الولايات المتحدة، من خلال العلاقة القوية مع أعضاء الكونغرس، وبواسطة الهيمنة على معظم وسائل المال والإعلام في أميركا، حيث تصبح السلطة التنفيذية في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية والسلطة الرابعة أي الإعلام.

وعندها لا يكون الفرز فقط بين حزبٍ حاكم وآخر معارض، بل يتوزّع التأثير الإسرائيلي (كما هو أيضاً في قوى الضغط الأخرى) على الحزبين الديمقراطي والجمهوري معاً، فنرى عدداً لا بأس به من الديمقراطيين يشاركون في ممارسة الضغط على إدارة أوباما لصالح اللوبي الإسرائيلي، علماً بأنّ تعثّر الرؤية الأوبامية بشأن الملف الفلسطيني ليس سببه حصراً حجم تأثير اللوبي الإسرائيلي، فهناك طبعاً مصالح أميركية عليا ترسمها قوى النفوذ المهيمنة تاريخياً على صناعة القرار وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهي قوى فاعلة في المؤسسات الأميركية الكبرى.

والمعضلة أيضاً هي في الاختلال الكبير بميزان الضغوطات على الإدارة الأميركية لجهة حضور الضغط الإسرائيلي وغياب الضغط العربي الفاعل، ممّا يسهّل الخيارات دائماً للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على إسرائيل ويختار الضغط على الجانب العربي، والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدف أولاً من قِبَل إسرائيل، كما هو الحلقة الأضعف في أي تحرّك أميركي دبلوماسي بالمنطقة. وهو ما حصل أخيراً حينما أسقطت واشنطن شرط تجميد المستوطنات داعيةً السلطة الفلسطينية لاستئناف المفاوضات بلا شروط، ومطالبةً الدول العربية بخطوات تطبيع مع إسرائيل لتشجيع الطرف الإسرائيلي!.

ثمّ كيف يمكن الآن المراهنة على الأمم المتحدة وعلى مجلس الأمن إذا كانت غالبية القوى السياسية الإسرائيلية ترفض وقف الاستيطان والانسحاب من القدس وحقّ العودة للفلسطينيين؟! ثمّ كيف يأمل الفلسطينيّون بموقف أميركي فاعل إذا كانت إدارة أوباما قد تجنّبت ممارسة أي ضغط فعلي على إسرائيل؟!.

ربّما تأمل الآن الدول الغربية باستثمار نتائج ما حدث ويحدث في البلاد العربية من تهميش للقضية الفلسطينيّة ومن تفجير لصراعات وحروب أهلية عربية ومن غياب لمرجعية عربية فاعلة، من أجل تعميم التطبيع مع إسرائيل قبل انسحابها من كل الأراضي العربية المحتلّة.

أين هي الضغوط الفلسطينية والعربية على الإدارات الأميركية وعلى عموم الدول الغربية التي دعمت إسرائيل منذ نشأتها؟!. فما حدث من أزمات معنوية بين أوباما ونتانياهو هو ليس بين دولتين، بل بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو.

ومردّ ذلك هو الأجندة الخاصّة بكلّ طرف حول أوضاع الشرق الأوسط ككل. فالتزامن بالوصول إلى الحكم في 2009، الذي حدث بين إدارة أوباما وحكومة نتانياهو، لم يرافقه توافق في الأجندات المرحلية.

فبينما جاءت إدارة أوباما على شعارات رفض الحروب والسعي لمعالجة الأزمات الدولية عبر التفاوض، وصل نتانياهو للحكم بفضل غالبية متطرّفة من الناخبين الإسرائيليين. أيضاً، حكومة نتانياهو التي أرادت التملّص من مسيرة التسوية مع الفلسطينيين، راهنت على دفع أميركا والغرب إلى مسيرة حرب مع إيران ومن يقف معها عربياً.

وها هي إسرائيل تراهن الآن على انقسامات وصراعات في الجسم الفلسطيني وفي عموم المنطقة العربية، وتجد مصلحةً كبيرة حالياً في الأحداث الدموية الجارية بالمشرق العربي، كما أنّ إسرائيل مستفيدةٌ جداً من تصاعد الصراعات العنفية في المجتمعات العربية عموماً، ومن الانقسام الحاصل في المنطقة بشأن العلاقات مع إيران.

إسرائيل بمختلف حكوماتها راهنت على تجزئة المجزّأ عربياً، وشجّعت كل الحركات الانفصالية بالمنطقة كالتي قامت في جنوب السودان وفي شمال العراق، وأقامت «دولة لبنان الحر» على الشريط الحدودي لها مع لبنان في ربيع 1979 كمدخل لمشاريع التقسيم الطائفي الذي أعدّت له منذ حقبة الخمسينات من القرن الماضي.

إنّ الضغط الأميركي والدولي المطلوب على الحكومة الإسرائيلية يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني، ومترافق مع تجميد كل أنواع العلاقات الحاصلة بين إسرائيل وبعض الدول، ومتزامن مع استمرار حق خيار المقاومة المسلّحة والشعبية ضدّ الاحتلال، وبأن لا تكون هناك أي مفاوضات فلسطينية مع إسرائيل ما لم يتمّ الوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات الاستيطان، إضافةً إلى إنهاء الحصار القائم على قطاع غزّة.