بينما كنت أبحث وأعبث في أوراقي القديمة المصْفَرّة، وأصُولُ وأجولُ في الذكريات العتيقة الحلوة والمرة والعادية، شاهدت بعض الصور بالأبيض والأسود التي تؤكد أنني اليوم أصبحت عتيقاً وقديماً بامتياز، خصوصاً مع هذا الفارق في التقدم التقني الهائل لحفظ المذكرات والذكريات.

 قديم بامتياز على الرغم أنه لم يخالجني هذا الشعور أبداً طوال هذه السنين، والمصيبة أنني أقاوم الِقدَم بكل تحايل وتناس في أحيان كثيرة. وكم كنت أفرَحُ حينما أنجح في التحايل ويُجَاملني ويُجمّلني الآخرون فيقولون أن روحي ما زالت وَثّابَة مراهقة على الرغم من أن الشّيْب الأبيض قد غزا جانبَيْ الرأس معلناً عكس ذلك.

وحتى أرْفَع عن المجاملين حَرَجهم فلا يبدون مبالغين في رأيهم بشبابي الذي غادرني بلا عودة، ولأنني لا أريد أن يتسع هذا الفارق المؤلم بين تقدم العمر الفِعْلي والمراهقة المتأخّرة، وهو فارق يتنازعني ويرهقني، وينزع عني الواقعية في التعامل مع الزمن، لذا توقفت غير مرّة أمام ملونات الشيب وأصباغه التدريجية التمويهية، عَلَّ الشيخ الهرم في داخلي يعود إلى ِصَباه.

في أوراقي القديمة التي استعرضتها بعد غياب رُبْع قرن من الزمان، شاهدت كتابات ومحاولات شِعريّة يائسة، وبعض القصائد الغرامية الأفلاطونية المكبوتة والملغومة التي ماتت في طياتها ولم تصل إلى الطرف الآخر، وصوراً شخصيّة بِشَعر تم تمليسه بقوة حيث كان الشعر الأجعد أيامها عيباً خُلُقيّاً وخَلْقِيّاً يجب تهذيبه ومعالجته وتلميعه بمسحة من زيت الزيتون...

لأن الشعر الناعم المهذب كان في أيامنا أحد أهم علامات الوسامة والتهذيب ووسيلة ناجعة لجذب العذارى واحتوائهن ومنافسة الغرماء بقوة. ووجب علينا مَعْشر المراهقين جُعّد الشعر آنذاك أن نبذل جهداً مضاعفاً، فالخسارة فادحة إذا كان غريمنا من ذوي الشعر المتهدّل المسترسل المتمايل مع الريح.

وهذا جعل مُهمّتي صعبة ومؤلمة إذ كَبُرْت وشعري يُعْجِزُ الحلاّقين ويوّترهم فكنت أرى علامات الاستنفار والتأفف تَبْرق وترعد من عيني ذلك الحلاق الستيني المصاب بالضجر كلما رآني عند باب صالونه، إذ كنت متطلب في أدق التفاصيل، وكانت مهمة الحلاق مستحيلة، على اعتبار أن الحلاقة ستعينني ولو مرة في إغواء إحداهن.

شاهدت صوراً لي تؤرخ لهذه المرحلة المراهقة من حياتي والتي امتدت حتى السنة الأولى من الجامعة، فقد تأخرت المراهقة قليلاً بفعل عقدة الشعر المتجعد والحرمان العاطفي الذي تسبب فيه، ولأن الحلاق لا يصلح الشعر الذي أفسدته أفكار الرأس.

وفي ذكريات أخرى شاهدت صورة معاكسة تماماً، حيث أطلقت لشعري المتجعد العنان، فَبَدَت نهاياته وكأنها ذيل حرباء يتلوى، أو نهايات أغصان شجرة العُلّيق. تذكرت يومئذ كيف أنني تنفست الصُّعَدَاء، وذهبت العقدة، وبتّ أمشي مفتخراً بشعري، فلم تعد الغلبة للشعر المتهدّل المنساب على الكتفين، وإنما لذوي الشعر المتلوي المستنفر.

وأعفاني ذلك من الذهاب إلى جارنا الحلاق المتذمر. أذكر أنني سعدّت بهذا التحوّل في الموضة والانهزام الجماعي لبعض الأصدقاء المنافسين من ذوي الشَّعر الناعم الذين لطالما حسدتهم على نعمتهم وتباهيهم أمامي. أما اليوم وبعده، فسوف تتلوى فتيات الجامعة مع كل خصلة جَعْدَاء، وسوف يُبْهَتْنَ بَشَعْري «الزنبركي»، فلا يأس ولا عُقَد بعد اليوم.

مررت بذكرياتي، وعبثت بالصور والأوراق، علّني أجد حالة إغواء واحدة ناجحة لهذا الشّعْر الذي كان بالنسبة لجميع المراهقين كَعُرْف الديك يعتنون به صباح مساء، وكأنه فخ تم نصبه أعلى الرؤوس، إن أحسنته أحسنت الإغواء وفزت بالصيد الثمين، فلم أجد، أي ذكرى تدل على نجاح المُهِمّة.

والمفارقة أنه كلما أصابت الخيبة المراهقين زاد حديثهم عن مغامراتهم المزعومة وعلاقات الغرام الملحميّة، والتي في غالبها مفتعلة ومفبركة ومزيفة يتم التحرر منها عندما نكبر قليلاً ونتحرر من سطوة الأنثى الغامضة المفقودة المشتهاة.

وفي سن الأربعين كبرنا وهَرِمنا، وتساقط الشَّعر وذهب معه العُرْف الكثيف المُجعّد المَجْدُول أو الأمْلَس المُتَطاير وصار كليهما خفيفاً هشاً، وما تبقى منه تم رفعه مصبوغاً فحميّاً ملصقاً من جانبي الرأس إلى أعلاه. ولكن هذه المرة، وبعد هذه السنوات، ليس الشَّعر عقدتنا إذ تغلبنا عليه بقول إن الصلعان أشد إغواءً من غيرهم، إنها كروشنا المنتفخة التي تكاد تنتأ من فتحات قمصاننا. فبتنا في الأربعين نعيش المراهقة ذاتها ولكن بعقد الكَرْش. ف

ما أن يرى الأربعيني المتكرّش امرأة عن بُعْد، سرعان ما يشفط كرشه، فينتفخ صدره وتتمدد كتفيه وكأنه «مروّض النّمرة» رافع الأثقال يافع العضلات تملؤه الصحة والعافية والشباب. ويا للمصيبة إذا كان شفط الكرش وحبس الأنفاس لا يتناسب مع توقيت مرور «الغزالة»، فإن تأخرها يعني إما السقوط خنقاً أو أن يتنفّس الرجل فينفلت الكرش ويَبُزّ أكثر مما كان، وتنكمش الكتفين ويَضْمُر الصّدْر، ويرتبك الوجه، وتكون الفضيحة، إذا أن المهارة في التوقيت هي أحد أسباب نجاح أو فشل الإغواء.

وما زلت أقلّب الصور والذكريات القديمة وعلاقات اجتماعية سابقة دَثَرها الزّمن والبعد، فالبعيد عن العين بعيد عن الذاكرة أيضاً، ونظرت في إحدى الصّور الجماعية لأحد الأعْرَاس لزفاف صديقي خفيف الشعر وعروسه الجميلة، فشاهدت أصحاب الكروش الناتئة والأصداغ المدلّاة بأكتافهم المنكمشة..

وأصحاب الرؤوس البرّاقة المغطّاة بالشّعيْرَات الملتصقة بجلدة الرأس بوضع الزيت والجل الهلامي؛ شاهدتهم مقترنين بأجمل النساء وأكثرهن تعليماً ووعياً وذكاءً، فأدركت أن هيئة الرجل في شخصيته وتكوينه الفكري والعقلي والثقافي وليس في كرشه المشفوط وعدد الشعرات الناعمة على رأسه، فتحسسوا عقولكم وليس رؤوسكم يا معشر الرجال لتظفروا بالجميلات القادرات.