بعد كل زيارة إلى باريس، أجدني مسوقاً إلى الكتابة عن فرنسا، فأتحدث عن وجه خفيّ عنّي، أو عن جانب لم أكتشفه، أو عن منجز فاتني الكلام عليه.
وأنا معنيّ بالشأن الفرنسي، نظراً لإسهام فرنسا الكبير في تكوين العالم الحديث عبر إبداعاتها واختراعاتها في مجالات الفكر والأدب والفن أو في ميادين العلم والتقنية. هذا فضلاً عن ثورتها الرائدة (1789) التي طوت صفحة في تاريخ الإنسانية، بقدر ما مهّدت لولادة شرعة حقوق الإنسان، التي هي ترجمة لثالوثها الشهير: حرية، إخاء، مساواة.
ثمّ أنا معنيّ بفرنسا، كعربي، لأن الكثيرين من أعلام النهضة والليبرالية والحداثة، قد تخرّجوا من باريس، من رفاعة الطهطاوي إلى المعاصرين؛ ولأن بعض أصحاب الدعوات والمشاريع قد لجأوا إلى باريس أو أقاموا فيها، منذ زمن الأفغاني ومحمد عبده. هذا فضلاً عن أن عاصمة التنوير شكلت، ولا تزال، المحجة والملاذ والمقرّ لم لا يُحصى من المثقفين العرب الهاربين من جور حكوماتهم وبؤس مجتمعاتهم.
قد يتّهمني البعض بالمغالاة والتطرّف في مديحي لفرنسا. وليس الأمر عندي كذلك. فأنا أخشى من تراجع فرنسا كمجتمع مدني وبلد تعددي وفضاء تنويري لممارسة حرية النقد والتفكير، أمام موجات التطرف سواء من جانب «الجبهة الوطنية» التي رفعت شعار فرنسا للفرنسيين، أو خاصة من جانب المنظمات الجهادية الإرهابية، لأن تراجع فرنسا يعني تراجع التيارات الحداثية في العالم العربي، فيما يخصّ قضية الحقوق والحريات.
وسأتوقف عند هذه القضية، وما لفت نظري في هذه الزيارة أنني وجدت أن الركن الأساسي في النظام الفرنسي ليس الحريات، بقدر ما هو القوانين التي تساوي بين المواطنين في ممارسة حريات التفكير والتعبير. والمثال الحي على ذلك هو التظاهرة الحاشدة، التي لا سابق لها، والتي شهدتها باريس دفاعاً عن حرية التعبير، ولو ساخراً، على إثر المجزرة التي أودت بحياة أسرة صحيفة «شارلي إيبدو».
بعد هذه التظاهرة، التي كان من شعاراتها «كلنا شارلي إيبدو» انبرى كُتاب ومثقفون لنقد الصحيفة، أو لنقد التظاهرة مشككين بجدواها وأهدافها. والمنتقدون، وإن كانوا قلّة قليلة، بين المثقفين والسياسيين، قد عبروا عن رأيهم بحرية، ولم يتهموا بتهم الخيانة أو الفاشية. طبعاً أنا لست من رأيهم، سواء منهم الذين اعتبروا التظاهرة موجهة ضد المسلمين، أو الذين قالوا بأن التظاهرة لم تكن لتحصل لو كان القتلى هم من اليهود فقط.
وما أراه أن التظاهرة حصلت، لأنها شكلت اعتداء على حرية التعبير وعلى الفضاء العام والنظام الجمهوري، ولكن الذين يفكرون بعقلية طائفية، أكانوا مسلمين أم يهوداً، لم يروا في التظاهرة البعد العمومي الوطني أو البُعد العالمي العابر للطوائف والمجتمعات.
أياً يكن، فإن الحرية المتاحة في نقد التظاهرة، أو في معارضة الصحيفة، دليل على أن المساواة في ممارسة الحرية هي المبدأ الذي يضمن الاستقرار السياسي والأمن المجتمعي.
الفارق الكبير، بين المجتمعات الغربية الديمقراطية، حيث السيادة لدولة القانون والمؤسسات، وبين المجتمعات العربية، في ما يخصّ مسألة الحرية، سواء على مستوى المفهوم أو الممارسة.
فالسائد هو فهم الحرية على نحو فردوسي طوباوي، أو بوصفها فطرة أو غريزة، كما تعامل معها كُثُر من المثقفين العرب. وكانت النتيجة أن ترجمت إلى استبداد أو مورست بصورة كسولة غير لا بناءة.
من هنا قلّما نحترم القوانين والأنظمة في بلداننا. بل نحن تراجعنا، في هذا الخصوص، عما ورثناه أو اكتسبناه من الحقوق، في عهود الاستعمار والانتداب.