كنا نفهم «النهضة» بمعنى مختلف جدا عن معناها الشائع الآن، وكان المعنى القديم أجمل بكثير، بل إن كلمة النهضة نفسها قلما نسمعها الآن، بينما كنا فى الماضي كثيرا ما نقولها ونسمعها، وكذلك كلمات أخرى تؤدي معنى مماثلا، وأصبح التركيز الآن على التقدم الاقتصادي والتنمية، وتعقد المقارنات باستمرار لتذكيرنا بمدى تخلفنا عن بلاد تحقق نموا اقتصاديا أسرع مما نحققه.
كان التقدم الاقتصادي يعتبر هدفا مهما بلا شك فى نظرنا منذ ستين أو سبعين عاما، ولكني أذكر جيدا كيف كنا نعتبر الاقتصاد وسيلة لا غاية. الآن أصبحنا نطلب التقدم الاقتصادي وكأنه مطلوب لذاته. بل حتى الأشياء الطيبة الأخرى، أصبحنا نبررها بما تؤدي إليه من تقدم اقتصادي. فالارتفاع بمستوى التعليم يزيد من إنتاجية العمل..
ومن يزيد من درجة «التنافسية». حتى الصحة أصبحت كثيرا تبرر بأثرها على الإنتاجية وفى تقليل الفاقد من الإنتاج، وكأننا لا نريد تعليما أفضل أو صحة أكمل إلا من أجل التقدم الاقتصادي. أذكر أيضا كيف كان موقفنا من «الثقافة » مختلفا عنه الآن، فمن سمات النهضة (هكذا كنا نشعر)..
الارتقاء بمستوى التعليم فى مختلف المجالات، وليس فقط فيما يخدم التقدم التكنولوجي فمحو الأمية كان هدفا مهما، وليس مجرد تمكين العامل من قراءة الإرشادات المعلقة على الحائط فى المصنع أو المكتوبة على الآلة التى يستخدمها.
كان شرف الوطن يستند إلى أشياء أخرى بالإضافة إلى تقدمه الاقتصادي. فهناك تحرر أراضيه من أي احتلال أجنبي، وهناك القدرة الكافية لرد الاعتداء على تراب الوطن كان جزءا من رفعة الوطن وتقدمه يستمد من معاملة تراثه الثقافي.
فكان يعتبر مهما أن يبقى الانتاج الأدبي الراقي الذى أنتجته الأمة فى أي عصر فى الماضي، حيا فى أذهان الناس، وجزءا من المقررات الدراسية، وأن يكون الحصول عليه ممكنا فى طبعات جديدة وأسعار زهيدة ودون عناء شديد. وكذلك كانت أيضا النظرة إلى التراث الموسيقي.
هكذا، فيما أعتقد كانت نظرة رواد النهضة فمصر منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. هكذا كان رفاعة الطهطاوي مثلا يفهم نهضة الأوطان، وكذلك علي مبارك، والشيخ محمد عبده، وكذلك كان فهم جيل طه حسين والعقاد.
طلعت حرب، الذي جدد الحياة الاقتصادية وأعاد إنشاء الصناعة الحديثة في مصر فى فترة مابين الحربين، كان يرى فى التقدم الصناعي مجرد وسيلة للنهضة القومية، أسوة بالمصلح الألماني فردريك ليست، الذي اقتدى به طلعت حرب، والذي دعا إلى حماية الصناعة القومية فى ألمانيا قبل طلعت حرب بمائة عام، وبرر ذلك بأن الأمم تبني نفسها بالصناعة، وأشاد بالآثار الإيجابية النفسية والعقلية التى تنتج عن التصنيع..
ورفض مقولة آدم سميث الانجليزي بأن المهم هو زيادة ثروة الأمم بصرف النظر عن مصدر هذه الثروة. قال فردريك ليست إن الإنسان ليس كما يتصور آدم سميث مجرد منتج أو مستهلك، بل هو قبل كل شىء مواطن ينتمي إلى أمة تهمه نهضتها.
لقد قامت ثورة1952 بينما كان هذا الفهم الشامل للنهضة هو الفهم السائد في مصر، ومن ثم كان اهتمام حكومات الثورة بالثقافة خلال الخمسينيات والستينيات لا يقل عن الاهتمام بالتصنيع وبناء السد العالي.
هل كان الشباب الذي ثار فى فرنسا أولا فى سنة 1968، ثم انتشرت ثورته إلى بقية بلدان أوروبا والولايات المتحدة، يشعر بالخطر القادم ويحذر منه، إذ كان يشكو من أن كل شىء فى بلادهم، من الإعلام والسياسة إلى نظام التعليم يستهدف تحويلهم إلى مجرد « مستهلكين»؟
لقد انقضى على ثورة الشباب هذه ما يقرب من خمسين عاما، وقد حدث بالضبط ما توقعوه وحذروا منه. بل الأخطر من ذلك أن رؤية الخطر القادم، التى كانت واضحة لدى الشباب منذ خمسين عاما، قد ضعفت بشدة إذ أضعف زحف التيار الاستهلاكي من حساسية الجميع ومن قدرتهم على تشخيص ما يحدث.
هل ساهمت فى ذلك ثورة الاتصالات والمعلومات ونجاحها المبهر فى توحيد العالم، ونجحت فى الوقت نفسه فى نشر رسالة الاستهلاك فى مختلف أنحاء الأرض، حتى أصبح هذا الانتشار نفسه حجة إضافية لإقناع من لم يقتنع بعد بأنه ليس هناك للنهضة معنى إلا زيادة الاستهلاك؟.