ثمة تمييز ضروري بين مفهومي الكينونة والصيرورة. فالأول يعكس بنية تاريخية مكتملة، ذات مرتكزات راسخة، أقله على ثلاثة أصعدة، من بينها الفن الإنتاجي، ومن ثم نمط التنظيم الاجتماعي الاقتصادي. وأيضاً البناء القانوني والسياسي، ومن ثم نظم الحكم عبر التاريخ. وكذلك النشاط الفكري المصاحب لهذه النظم المتعاقبة، والقادر على تبريرها. أما الثاني، فيعكس تغيراً في بعض، وليس كل، عناصر تلك البنية، خصوصاً العناصر العليا / الفوقية منها، كالنشاط الفكري مثلاً.

شيء من هذا، يمكن الادعاء به في مقاربة العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة، فالأخيرة لم تنتج أبنية مجتمعية جديدة أو مذاهب سياسية مغايرة تقف بصلابة في موازاة البنيات والمذاهب التي أنتجتها الأولى، بل اكتفت، حتى الآن على الأقل، بالنحر في القواعد المؤسسة لها.

ولأن الفارق يبقى كبيراً بين عملية تاريخية يمكن وصفها بالسلب، تكتفى بنقد أسس ما هو قائم، وبين عملية تاريخية أخرى تتسم بالإيجاب، يمكنها تأسيس وضع تاريخي جديد، يتجاوز كلياً ما هو قائم، تظل فلسفة ما بعد الحداثة قاصرة جوهرياً عن وسم حركة التاريخ بميسم خاص، أو تشكيل كينونة جديدة في سياقه، بل تستمر فقط في نطاق (الما بعد)، المنسوب إلى الكينونة نفسها (الحداثة)، فلا تستطيع سردية ما الإعلان عن نفسها، ما لم تضف مكونات جديدة (هيكلياً) إلى السردية السابقة عليها. وهنا، يمكن الادعاء بأن ما بعد الحداثة، ليست إلا مرحلة جديدة (صيرورة)، لا تزال تعمل في إطار الحداثة نفسها، ككينونة متصاعدة.

في هذا السياق، يمكن تفهم عمق الانتقادات التي توجه إلى الحداثة، والناجمة عن تشوهات عديدة حدثت لها طوال مسيرتها الطويلة، غير أن تلك الانتقادات التي تبرر حاجتنا التاريخية إلى كينونة جديدة تتجاوزها، لا تعني ميلاد تلك الكينونة فعلياً. وإذا كان ممكناً قبول مفهوم «ما بعد التحديث» كمفهوم واقعي، يشي بمرحلة تلي تجربة التحديث، التي يمكن تجسيدها موضوعياً في أفكار تنموية وأدوات تقنية يمكن ربطها مثلاً بعصر الصناعة، فمن الصعب التسليم بمقولة «ما بعد الحداثة» بدافع أمرين أساسيين:

أولهما، أن الحداثة ذات طبيعة نسبية بالضرورة، إذ تنطوى جوهرياً، ضمن مقوماتها الست الأساسية، بجانب العقلانية والعلمانية والفردية والمادية والتاريخية، على نزعة نسبية، تعد نتاجاً طبيعياً لارتباط الحداثة بالعلم الطبيعي ومنهجه التجريبي، ومن ثم روحه الشكية، النازعة إلى التقدم من خلال القابلية للتكذيب، ومن ثم التجاوز، أي تكذيب العلم لنفسه، وتجاوزه لذاته.

وثانيهما، أن الحداثة ذات بنية جدلية بالضرورة، فهي كفلسفة جوهرية، ليست هي كتجربة تاريخية. قطعاً لا تعدو التجربة أن تكون نتاجاً لهذه الفلسفة، ولكنها ليست مجرد انعكاس تلقائي وبسيط لها، بل بنية تراكمية لمراحل وعصور متوالية: النهضة، والإصلاح الديني، والمذهب الإنساني، والثورة الصناعية، والثورات الديمقراطية المتتالية، وهكذا، نصبح أمام مسارات للتحديث لم تتبلور في زمن واحد، بل في أزمنة متباينة، وعبر صراعات جدلية.

وهكذا، تبدو الحداثة، بنسبيتها وجدليتها، تجربة واسعة وثرية، غير محدودة بسقف تاريخي نهائي، بل موسومة بالقدرة على تجاوز ذاتها، فإذا ما تحقق ذلك، لم يكن تجاوزاً خارجياً لها ككينونة شاملة، بل داخلياً فقط لأحد مراحلها.

إن الزخم الحقيقي، والمنبع الرئيس لفلسفات ما بعد الحداثة ومقولاتها، وما ينبثق عنها من نزعات تفكيكية، إنما يصدر عن المزاج العقلي الفرنسي أساساً، وليس حصراً، وهو مزاج ذو طابع شكي عميق، منذ ديكارت على الأقل، مروراً بالوجودية الملحدة، التي عصفت به منتصف القرن العشرين، خصوصاً لدى سارتر، وصولاً إلى تفكيكية دريدا. إنه المزاج الذي يواجه لحظات عدم اليقين بالقطيعة الكاملة مع البنية القائمة، بديلاً عن محاولات نقدها، على نحو يضمن تجديدها في إطار الاستمرارية معها.