لا تعني مقولة نهاية التاريخ زوال عالمنا بالمطلق، بل تعني فقط أن هذا العالم سوف يخلو من الصراعات الكبرى، والانقسامات الجذرية بين البشر فلسفياً وإيديولوجياً، بحيث يصير التاريخ سكونياً، ويصير الشعور الإنساني بحركته أقرب لشعور راكب الطائرة بحركتها الناعمة الملساء في الفضاء الأعلى، منه إلى شعور راكب السيارة بوعورة الطريق، وخشونة السطح، وربما حركة كثبان الرمل.
ومن ثم فإن مفهوم نهاية التاريخ لم يكن جديداً تماماً عندما طرحه فوكوياما مطلع تسعينيات القرن الماضي، وإن تبدى مع الرجل أكثر صراحة وجرأة بالقياس إلى كل الطروحات السابقة.
ولو أننا بحثنا عن جذر طبيعي ومباشر لإعلان نهاية التاريخ ما وجدنا أفضل من إعلان نهاية الإيديولوجيا مطلع خمسينات القرن العشرين نفسه، فالمنطق الكامن خلفهما يبقى واحداً: إما إعلان إفلاس إيديولوجيا متراجعة (الشيوعية) أمام منافستها الصاعدة (الرأسمالية)، وإما إعلان نهاية التاريخ الحامل للصراع الإيديولوجي برمته، ليحل محله تاريخ جديد، يحمل وصفاً جديداً (العولمة) ولكنه يتمحور بشكل كامل حول الإيديولوجيا المنتصرة، فالعولمة الصاعدة هى أعلى مراحل الرأسمالية. وهكذا تصبح النهايتين وكأنهما طبعتين مختلفتين من كتاب واحد.
فى هذا السياق يكمن فارقان أساسيان بين النهايتين: الأول منهما يتعلق بالطرف المخاطب بمقولة النهاية. ففي دعوى نهاية الإيديولوجيا لم يكن سوى العالم الاشتراكى، الطرف المباشر فى صراعات الحرب الباردة منتصف القرن الماضى. أما المخاطب بدعوى نهاية التاريخ فيتمثل فى جميع مناطق العالم خارج سياق الليبرالية الغربية نهاية القرن نفسه. إنها مرة أخرى الأفكار وقد ازدادت وضوحاً، وصار أصحابها أكثر جرأة. والثانى منهما يتعلق بدور القائد المندفع إلى حديث النهاية.
فبينما كان لأوروبا الدور الكبير فى إعلان نهاية الإيديولوجيا، تعبيراً عن قلقها إزاء التمدد السوفييتي داخل القارة العجوز، فقد كان للولايات المتحدة الدور الأبرز فى إعلان نهاية التاريخ، تعبيراً عن طموحها الشديد إلى زمن جديد مفعم بروح الانتصار فى الحرب الباردة.
وقد زاد من وطأة هذا الطموح التكوين البراجماتي للعقل الأميركي، ونمط إدراكه الإختزالي للتاريخ، إذ لا يعتبره مجالاً لتفاعل أدوار وإرادات الأمم والشعوب التى عاشت فيه، ولا لتراكم الموروثات الثقافية للدول والحضارات التي توالت عليه، بل مجرد صندوق قديم تتزاحم فيه أحقاد البشر وضغائن الزمن، التى يتعين تجاوزها كشرط للبدء فى تأسيس عالم جديد.
ولأنه عقل ذرائعي، يقيس كل المواقف بذهنية الربح ومقاييس التفوق، فهو يسلك على أساس أن كل شيء يقبل التفاوض، وأن عقد الصفقات ممكن دوماً حيال كل المشكلات، ومن ثم كان عاجزاً عن الإدراك العميق لأهمية مفهوم (الكرامة القومية) لدى الأمم، أو القوى المعنوية لدى الشعوب، حيث القوة العسكرية قادرة على إنتاج تواريخ جديدة وصنع دول مختلفة، بنفس قدرتها على تحقيق الانتصارات الحربية، وهى رؤية زائفة ورطت الولايات المتحدة فى عديد من الأزمات يعد العراق آخرها، وكرست لديها الكثير من العقد التى تقع فيتنام فى قلبها.
كما أثارت لدى الكثيرين شعوراً بوطأة دورها، خصوصاً فى المشرق العربي الذي توالت عمليات تفكيكه، وإعادة بناءه فى سياقات وقوالب شتى. فبدلاً من كونه الشرق الأدنى، مجرد طريق الإمبراطورية البريطانية نحو الهند، أصبح هو (الشرق الأوسط) ذا الموقع المركزي فى استراتيجية الاحتواء الأميركية ضد الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة.
وعندما انتهت الحرب الباردة بهزيمة الأخير أمامها، تصرفت الولايات المتحدة وكأن العالم العربى قد هزم بالضرورة أمام إسرائيل. وكما هُزمت الإيديولوجيا الشيوعية أمام الرأسمالية، فقد هُزمت، أو صار واجبا أن تهزم القومية العربية أمام العقيدة الصهيونية وكأن العروبة، بكل عمقها التاريخي والثقافي والديني، مجرد إيديولوجيا سياسية قابلة للهزيمة والتلاشي.
وكما تداعى نمط الحياة السوفييتي/ الاشتراكي بكل مقوماته أمام النمط الأميركي/ الفردي، يجب على العالم العربي أن يسلم قياده لإسرائيل التى صارت فى موقع القطب الإقليمي المنفرد فى مواجهة التمزق الاستراتيجي العربي. وكما تم تفكيك الكتلة الاشتراكية حول روسيا ليتبدى انكشافها أمام الغرب، لابد من تفكيك الكتلة العربية حول مصر ليتأكد انكشافها أمام إسرائيل، كى يمتد الشرق الأوسط حول إسرائيل فى القلب، حاملاً وصف الكبير.
وهكذا يمكن ترتيب بدايات ونهايات تاريخية، لتكوينات سياسية ومناطق حضارية، تعويلاً على وقائع عسكرية وتحولات استراتيجية، فالهزيمة هذه تنهي مرحلة تاريخية تصير قديمة، والنصر ذاك يفتتح حقبة تاريخية تصبح جديدة وراهنة. ولعل النتيجة المؤكدة أمامنا اليوم، بعد عقدين من إعلان النهاية، هي أن التاريخ لم ينته بعد، وأن المظاهر العديدة التى بررت ذلك الإعلان لا تعدو أن تكون، من ناحية أولى، نتاجاً طبيعياً لغرور العقل البراغماتي، والهيمنة شبه المطلقة للقوة العسكرية الأميركية آنذاك.