نذهب إلى الماضي لنستقي منه العبر والدروس، هو تاريخ مضى، لكن للأسف لا نتعلم منه شيئاً، بل نكرره ونعيده بكل أخطائه، فبالرجوع إلى العصور الوسطى، نجد أن الجدل كان محتدماً في الكنيسة بطرح سؤال، هو: هل الكواكب مذكرة أم مؤنثة، وعلت الأصوات وتباينت الآراء، واحتدم النقاش، ومضت الأيام، حتى جاء الحل من أحد الحاضرين، عندما نادى بأعلى صوته، مقترحاً الكشف عن ذيل كل كوكب لتعيين جنسه، وما إن صودق على هذا المقترح، حتى انتهت إشكالية مهمة.

لقد تشاكل المسلمون بعد أن خاض الغرب وغاص بجهله فترة من الزمان، ثم خرج ليجابه حقيقة أمره، ويشق طريقه الذي أوصله إلى ما هو عليه اليوم من تقدم ورقي وحضارة. تشاكل المسلمون في أمور نهاهم الله عنها، فأصروا التلاعب حولها وعليها، ضاربين بعرض الحائط كل أمر ليخوض فيهم الخائض، ويبحث الباحث في أمهات الكتب وجل المراجع، ليس قصداً أو تحرياً للبحث المجرد، بل ليدعم فكره وما مال إليه هواه، فيحشد الأدلة بطريقة تبريرية لما عند مذهبه ولنقض مذهب غيره، وهو عين ابتغاء الفتنة.

لقد كان لترف الفكر الذي هو آفة الآفات، أثر كبير في انحسار دولة الإسلام وضعفه وهوانه، فقد خاض المسلمون في مسألة خَلق القرآن، وبنوة إسماعيل لإبراهيم عليهما السلام، ومكان الكعبة الأصلي، وغيرها من المسائل التي إن ألمحت لها في مقالي أنها من نقاشات الترف الفكري، لترك أنصارها الفكرة التي أريد إيصالها، ولتنهال علي من يومي هذا السباب والشتائم، رداً على عرض هذه الكلمات في المقال. فحري بي ألا أزيد في العرض والأمثلة، فإن فات مقص الرقيب عن قصها، قطعتني سكاكين ألسن أصحاب الفكر المترف، الذي لا هدف واضحاً له، ولا دافع معقولاً يحركه، ولا نية سليمة تحكمه.

لقد ابتعد الناس عن التفكير بالآفاق، وما أمرهم الله به أن يتفكروا به، وما أكثر آيات التفكر حتى استبدلوها بقواعد الجدال وسفسطائيته التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ونسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»، ولقوله عليه الصلاة والسلام «إنما أهلك من كان قبلكم، بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم»، إلا أننا، والحمد لله، لم نختلف على أنبيائنا، بل اختلافنا على ورثة الأنبياء من الأئمة والعلماء، وشق كل منا طريقاً بالتقرب إليه وتكفير الآخر.

لقد اختلفنا في الشروط الواجب توافرها في الخليفة، وضربنا لذلك الكتب والأبحاث، وعُقِدَت على إثره الندوات والمؤتمرات، بل قامت بشأنه الحروب. ما زلنا نُدخل بعضنا بعضاً النار، لأنه لا أحد سوانا من الفئة الناجية، والبضع وسبعون الآخرون بالنار وساءت مصيراً، تفكير عَرْضي وعَرَضي، لا هو أفقي ولا فقهي، جدل أرعن، وغشاوة تجرنا لخراب بيوتنا بأيدينا، وتدخل في ما لا يَعنينا، حتى صارت أنوفنا تتدخل في السياسة الدولية، والاقتصاد العالمي، والتكنولوجيا المعلوماتية والطب والرياضة والفن، وكأن هذه الفئة خُلقت لتحاسب الخَلق قبل حساب الخَالق، أو أنهم مندوبو الله في أرضه، كي يطبقوا حسابه الختامي، وكأنهم ضمنوا لأنفسهم الجنة، وغيرهم إلى النار، وأبو بكر رضي الله عنه كان يقول: «والله لو أن قدماً في الجنة وأخرى خارجها ما أمنت مكر الله»، أفلا يعتبر أولو الألباب، أم أنه زال عنهم اللب أيضاً وضاع.

هنا، لا بد لي أن أكرم وأشيد بدور المرأة، أمانة التي تعف نفسها غالباً عن الخوض في مثل هذه المسائل والمهاترات، وترفعت بقدرها عن هذه المناقشات، وسطرت بوجودها وكيانها أموراً تستحق الطرح، وإبداء الرأي وتسليط الضوء في حين أن الرجال صاروا للأسف هم بذرة الشقاق والخلاف.

وفي نطاق تصديق ما ذكرت، فإن أم الإمارات، الشيخة فاطمة بنت مبارك رئيسة الاتحاد النسائي العام، قد قالت: «إنني أرى أمامي صورة مستقبل المرأة في بلادي، أراها قد أصبحت أقل كلاماً وأكثر عملاً... أراها وقد أصبحت أكثر وعياً وفهماً لكل ما يحيط بها من ظروف، وما هو مطلوب منها من واجبات». ولنذكر قول الإمام علي رضي الله عنه في هذا المقام، إذ قال «وما رأيت إسرافاً إلا بجانبه حق مضيّع»، فلنحذر ولنعتبر قبل فوات الأوان.