عندما سمعت رد فعل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون على انتخاب جيريمي كوربين زعيما جديداً لـ«حزب العمال» البريطاني، اعتبرته مجرّد تكتيك مناورة تهدف إلى نشر الخوف بهدف إضعاف الخصم. فقد حذّر: «أصبح حزب العمال الآن يشكّل تهديداً خطيراً لأمن بلادنا واقتصادها، وأمن عائلاتكم».

لكن بعد التدقيق في سجل هذا النائب السابق والاستماع إلى خطبه، أشاطر كاميرون مخاوفه هذه. ففي حال وصل جيريمي كوربين إلى رئاسة الوزراء، سوف تتضاءل مكانة بريطانيا على الساحة العالمية، وسوف تتدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والسعودية ودول الخليج ومصر إلى حد الانهيار.

سوف تتحوّل بريطانيا العظمى مجرد دولة لا أهمية لها، دولة على الهامش، فاقدة لعضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقدراتها النووية المثلّثة الأبعاد، ناهيك عن خسارتها للحلفاء الأقوياء المستعدّين للتحرّك دفاعاً عنها.

للوهلة الأولى، قد يبدو منافياً للعقل الإشارة بهذه العبارات إلى هذا الناشط الاجتماعي الأشعث بعض الشيء والمتمسّك بمواقفه، ذي المقدرة الخاصة على الظهور في صورة فاعل الخير الحقيقي الذي يسعى إلى إصلاح العالم وتصويب مساره. فقد نجح في ممارسة سحره على أنصار الحزب الأوفياء خلال المؤتمر الأخير لـ«حزب العمال» من خلال حس الدعابة الذي يتمتّع به بعيداً من الاعتداد بالنفس، مما أثار إعجاب الحضور ووقفوا مصفقين له على مناصرته للعمّال والعائلات الفقيرة. ومنذ انتخابه، استقطب «حزب العمال» أكثر من ستين ألف عضو جديد معظمهم من الطبقة العاملة التي تعنيها الهموم المتعلقة بتعزيز النقابات، وزيادة مدفوعات الرعاية الاجتماعية، ورفع الحد الأدنى للأجور أكثر مما تعنيها السياسة الخارجية.

الحرس القديم في حزبه يساورهم قلق شديد. يريدونه أن يرحل في الحال. فقد شكّل رفضه إنشاد النشيد الوطني البريطاني God save the Queen (حفظ الله الملكة)، مصدر إحراج؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى قيامه بتعيين عشيقته السابقة وصديقه المقرّب في منصبَين رفيعين في حكومة الظل التي يقودها.

وأسوأ من ذلك، أثار كوربين استياء الولايات المتحدة بعد اعتباره في تصريح علني أن هجمات 11 سبتمبر استُخدِمت ذريعة لاجتياح أفغانستان، وقال في مرحلة معيّنة إنه حزين لوفاة أسامة بن لادن.

يشعر تيار الحرس القديم الوسطي في «حزب العمال» بصدمة شديدة ازاء ذلك الوضع إلى درجة أنه يُعتقَد أنهم يحضّرون لتحدّي قيادته للحزب، لكنهم مضطرون إلى الانتظار وتحيُّن الفرصة حتى تتراجع شعبيته. إلا أن السؤال المطروح هو، ماذا لو لم تتراجع شعبية كوربين؟

ليس كوربين سياسياً، بل هو يساري متشدّد يحيط به أصدقاء ومعاونون بغيضون جداً، منهم قادة إيران و«حزب الله» وحركة «حماس» الذين «تشرّف» ذات مرة بدعوتهم إلى البرلمان البريطاني. ويُزعَم حتى أنه دعم الجيش الجمهوري الايرلندي خلال ضلوعه في قتل الجنود البريطانيين، وفي إحدى المرّات، أعطى مالاً لأحد مساعديه وطلب منه تسليمه إلى عميل للجيش الايرلندي الجمهوري فارّ من وجه العدالة. وفي أغسطس الماضي، كان من المقرّر أن يتحدّث في مؤتمر من تنظيم مؤسسة «ميدل إيست مونيتور» الناطقة باسم «الإخوان المسلمين» ومقرّها بريطانيا، حيث كان سيجلس على المنصة إلى جانب أنس التكريتي، المروِّج للإخوان المسلمين، وشخصيات من «حماس» وأحد الفائزين في المسابقة الإيرانية للرسوم الكاريكاتورية حول إنكار المحرقة.

ولم يلغِ مشاركته في المؤتمر إلا بسبب الفضيحة التي ظهرت على خلفية إعلان كبير المحررين في المطبوعة الصادرة عن «ميدل إيست مونيتور» عن تأييده لممارسة الرجم حتى الموت. وقال كوربين للموقع الإخباري التابع للإخوان، «ميدل إيست آي»، الذي يواظب بانتظام على إجراء مقابلات معه، إن الرئيس المصري غير مرحّب به في لندن بسبب سجن بلاده للرئيس الإخواني السابق محمد مرسي.

كتبت إحدى الصحف التابعة للحكومة البريطانية قبل انتخابات «حزب العمال»: «إذا فاز جيريمي كوربين، سيصبح حزب العمال في موقع استثنائي بوجود قائد على رأسه يملك، بين أعضاء البرلمان، الروابط الأوسع مع الإرهابيين».

يشعر الأئمة الإيرانيون ببهجة عارمة إزاء إمكانية فوز رجلهم البريطاني المفضّل. يعبّر أحد العناوين الرئيسة في صحيفة «تلغراف» عن الأمر خير تعبير: «إيران تحتفي بجيريمي كوربين لأنه يزعزع أُسُس المؤسسة البريطانية الحاكمة».

بحسب المقال، أغدق سيد سلمان صفوي، أحد معاوني المرشد الأعلى علي خامنئي، «المديح على كوربين» معتبراً أن إيران قادرة على «إحلال السلام في الشرق الأوسط» ومثنياً على سعي كوربين إلى إخراج بريطانيا من حلف الناتو.

لا شك في أنه إذا تحوّلت بريطانيا إلى دولة غربية عاجزة من دون نفوذ دبلوماسي أو من دون إمكانات التسلّح النووي التي تضمن مكانتها بين الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن الدولي، وسيصبّ ذلك في مصلحة إيران.

أما في ما يتعلّق بكلام صفوي عن أن إيران المعتدية الأولى في سوريا ولبنان والبحرين واليمن قادرة على إحلال السلام في الشرق الأوسط، فهذه ليست سوى مجرد دعابة سمجة في الوقت الذي أقسم فيه خامنئي على زيادة دعمه لما يسمى «بالمقاومة».

تولّى كوربين تقديم برنامج حواري سياسي في غياب مقدّمه الأصلي جورج غالواي، عبر قناة «برس تي في» الإيرانية الناطقة باللغة الإنجليزية التي تدأب على ترويج بروباغندا الدعاية المعادية للسعودية والبحرين والتي حُذِفَت تردّداتها من موجات الأثير البريطانية. العام الماضي، زار كوربين إيران والتُقِطت له صور وهو يصافح بحرارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف.

واستغلّ كوربين مناسبة إلقائه خطاباً في الاجتماع السنوي لـ«حزب العمال» من أجل مهاجمة السعودية والبحرين على خلفية سجلهما في مجال حقوق الإنسان، وطالب كاميرون بمنع السلطات السعودية من تطبيق عقوبة الإعدام، وكأنه يحق لأي مسؤول بريطاني التدخّل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة.

يطرح موقع «البوابة» سؤالاً وجيهاً في معرض إشارته إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي تستثمر بقوة في المملكة المتحدة: «هل يجب أن يقلق المستثمرون الخليجيون من جيرمي كوربين؟» جوابي هو نعم بالتأكيد في حال أصبح رئيساً للوزراء، نظراً إلى تعصّبه ضد العرب، فضلاً عن رغبته العقائدية في النيل من الأثرياء الذين يقترح فرض أقصى درجة من الضرائب عليهم.

يبدو جيريمي كوربين متواضعاً وصادقاً، لكن عند الإمعان سنرى أن عداءه للخليج يردد صدى العداء الذي تبثّه قناة «برس تي في» وسواها من وسائل الإعلام الإيرانية. قد تكون حظوظه بالوصول إلى رئاسة الوزراء ضئيلة لأن الإعلام البريطاني يعرفه جيداً ويعرف كيف يتعامل مع أمثاله، لكنني أدعو المستثمرين في هذه المنطقة ليكونوا في حالة تأهب فربما تنتظرهم مفاجأة غير سارّة.

لا رسالة لدي أوجّهها إلى كوربين؛ فهو متشبّث جداً بآرائه. كيف يُعقَل أن يدّعي أحدهم قلقه على حقوق الإنسان في حين أنه يحتضن نظاماً مثل النظام الإيراني الذي يُخضع شعبه بالقوة ويعامل الأقليات كمواطنين من الدرجة الثانية ضارباً عرض الحائط بحقوقهم السياسية والثقافية؟

لماذا يتجاهل كوربين عشرات المعارضين والصحافيين والنشطاء القابعين في السجون، أو الأطفال الذين ينتظرون دورهم في صفوف الموت؟ بدلاً من ذلك، يشيد بالاتفاق النووي مع إيران واصفاً إياه بأنه انتصار للسلام. يا له من منافق!

أطلب من الشعب البريطاني أن ينظر أبعد من الواجهة، وأشدّد أيضاً على أن الهجمات التي يشنّها كوربين على السعودية والبحرين لا أساس لها من الصحة. فالدولتان المهدَّدتان من إيران وعملائها تملكان الحق في ضبط أمنهما والتعامل مع العناصر الفاسدة بالطريقة التي تعتبرانها الأنسب.

تتمتّع شعوب الخليج بأعلى مستوى معيشة من أي مكان آخر. في يوليو الماضي، توفّي طفل وُلِد قبل الأوان لأن السلطات المحلية في مدينة بول في مقاطعة دورسيت البريطانية رفضت تأمين مأوى مؤقت لأهله المشرّدين. هذه مأساة لا تحدث في بلداننا.

يحظى شعبنا بالرعاية؛ وتتم تلبية احتياجاته، وهذه هي أهم حقوق الإنسان على الإطلاق. كوربين متطرّف، ومدافع عن الإرهابيين والأنظمة الإرهابية، في ثياب حملٍ وديع. لا يسعني سوى أن أؤكّد على التحذير الذي وجّهه ديفيد كاميرون وأحث الناخبين البريطانيين على التيقّظ وتوخّي الحذر!