أدى تسارع التقدم التكنولوجي إلى تنامي عملية تفكيك دؤوبة للإنسان الذى تحدثت عنه الأديان السماوية، ثم الفلسفات الكبرى، باعتباره كائناً متسامياً، بشرت به النزعة الإنسانية الحديثة، وتأسس عليه عصر التنوير باعتباره سيد الأرض، الذى تمكن بعد كفاح تاريخي طويل، من التحكم فى عالمه، وتحقيق السيطرة على مصيره.

كانت العلاقة التاريخية بين الإنسان والتقنية قد تجسدت فى صورة (الحرفي) أو (الصنايعي) أو (الأسطي) التقليدي، القادر على تصور منتج يريد صناعته، ثم الشروع فى إنتاجه فعلياً من مواد خام قد يكون اشتراها من آخر، وقد يكون هو من صنعها بنفسه، ما يعني كونه الفاعل الخلاق للمنتج النهائي، الذي يتشرب عرقه ويحمل شخصيته، ويتمتع بتفرده، وذلك حتى قامت الثورتان الصناعيتان الأولى والثانية، بدرجات جد مختلفة، بتحويل هذا الصنايعي/ الأسطي إلى مجرد عامل صغير في مصنع كبير، يقدم منتجاً نهائياً بكميات كبيرة متماثلة، حسب حاجة السوق الرأسمالي الواسع، يقضي وقته كله أمام خط إنتاج كبير يشاركه فيه عمال آخرون، في إنتاج جزء أصغر من آخر صغير، أي قطع نمطية ليست لها شخصية محددة أو ملامح مكتملة.

ومعنى ذلك أن العامل لم يعد صانعاً، بل مشاركاً صغيراً في إنتاج متوال لأشياء غير محددة، لا يتمكن معها من رؤية المنتج النهائي الذي شارك فيه إلا عبر السوق أو حتى نهائياً.

وقد أدى هذا التحول إلى ذبول إحساس العامل بالغاية الإنسانية لجهده، والذي كان يتولد تلقائياً من العلاقة الحميمة بين الإنسان والمنتجات التي يصنعها، والتي تجعله قادراً دوماً على تأملها، وتذوقها كما لو كان يصنعها لنفسه، قبل أن يعطيها للآخرين، ما يؤدي تدريجياً إلى ضمور حسه الأخلاقي، وتحوله إلى (إنسان وظيفي) لا يتساءل كثيراً عن الغايات النهائية للأشياء. فمقابل الحجم الصغير للشيء الذي يصنعه يتكرس لديه المعنى الجزئي.

وكما أن الشيء المصنوع لا يكتمل أبداً أمامه، فإن المعاني الكبرى لا توجد قط لديه، فهي دوماً إما غائبة أو غائمة أمام معانٍ صغرى تلبي حاجات يومية أو لحظية، وهكذا لا يصبح هناك معنى جوهري نهائي للفضيلة، بل تصبح القيم نسبية تتصالح عادة مع التغير، وتنفلت أبداً من الثبات، وتتمرد دوماً على التسامي، خضوعاً لمنطق العادي ولهاثاً خلف الممكن.

ولنضرب مثالاً عملياً يجسد لنا تلك الأفكار النظرية، يتعلق بصناعة الأسلحة النووية بكل تعقيدها التكنولوجي ووحشيتها الأخلاقية، حيث تمر دورة إنتاجها بمراحل طويلة، نظرية وعملية يشترك فيها باحثون وعلماء كثيرون، يقوم الواحد منهم بدوره في لحظة زمنية ما، تسبق أو تلي تلك اللحظات التي يقوم فيها الآخرون، شركاؤه في العمل النهائي، بأدوارهم المرسومة. هذا الفاصل الزمني قد يبلغ أعواماً بين التخطيط في البداية، والتجريب في النهاية. ناهيك عن الفاصل المكاني، الفسيح أحياناً بين الشركاء، عبوراً للمدن وربما للدول، وأحياناً المحيطات والقارات.

ومن ثم يتشارك الجميع في مراحل العمل من دون أن يتقابلوا وجهاً لوجه، وربما من دون أن يعرف أي منهم اسم الآخر أو جنسيته.

كما أن كلاً منهم يقوم بعمله الجزئي الصغير وهو إما غير مدرك لطبيعة المنتج النهائي «المروعة»، وإما غير مكترث به نظراً لضآلة حجم الدور الذي يلعبه في تلك الصيرورة الممتدة، سواء لصغر حجم المكون الذي يقوم بصناعته، أو بفعل تباعد صورة هذا المكون عن صورة المنتج النهائي، فمع الصغر والتباعد يغيب الشعور الكلي بوحشية هذا المنتج، الذي قد يؤدي، بعد زمن قصير وبفعل ملابسات معينة، إلى إبادة البشر. وهكذا يتشارك كثيرون ربما كانوا من أفضل الناس علماً ودراية، وربما أخلاقية على المستوى الفردي، في ارتكاب جريمة كبرى من دون اتفاق بينهم، ومن دون مسؤولية مباشرة تقع على عاتق أي منهم.

وهكذا يتحول الإنسان المعاصر إلى صورة قريبة من تلك الصورة التي كان هربرت ماركوز قد رسمها للإنسان ذي البعد الواحد، أي ذلك الإنسان الذي تم تحريره من مقومات تساميه الأخلاقي، فلم يعد ذاتاً مركبة، متعالية، تملك حق الشهادة على العالم. كما تم تفريغه من كل المثل والغايات إلا من أهداف قريبة كالبقاء واللذة والاستمتاع المباشر، فلم تعد لديه قدرة حقيقية على تجاوز ذاته الضيقة، بل صار أكثر قابلية للخضوع للبيئة المحيطة، والتي تستحيل تدريجياً بنية كاملة لها أذرعها العنكبوتية الممتدة في شتى المجالات.

ولعل هذا التحول العميق يفسر ملمحاً أساسياً في المجتمعات ذات الديمقراطية المستقرة، والوفرة المالية، وهو عزوف الكثير من الأفراد ذوي الحساسية الإنسانية الفائقة عن الذهاب إلى التصويت في الانتخابات العامة، وذلك لأن مساحة التغيير التي تطرحها الأحزاب المتصارعة على السلطة لا تكفي، في تصورهم، لما يطمحون إلى تغييره في نمط الحياة السائد، القائم على الصراع والأنانية والانتهازية. ولأن جل الإيديولوجيات السياسية الراهنة تعمل على الأرضية الأخلاقية نفسها، أي بحسب العقل النفعي نفسه، سعياً إلى صوغ الإنسان الوظيفي ذاته، المسكون فقط بوعود الحياة الأفضل، فيما لا تفكر جميعها في استعادة الإنساني المتعالي، القادر على فهم العالم فهماً كلياً، ثم السلوك بحسب رؤيته الخاصة وإراداته المستقلة، سلوكاً أخلاقياً.

ففي بلد ديمقراطي أيضاً وليس شمولياً فقط، يضطر المواطن إلى المشاركة تحت العلم الوطني في حرب لا يريدها، كما يضطر آخر إلى دفع ضريبة لمجهود حربي لا يراه ضرورياً، ومن ثم يتبدى موقف هؤلاء الناس من ذوي الحساسية الخاصة، كعمل احتجاجي على حال الإنسان المعاصر، المهزوم أخلاقياً أمام إنسانيته، رغم تقدمه تكنولوجياً في مواجهة بيئته.