يعتقد البعض أن الدين يكون شاملاً فقط، عندما يتحدث في كل شيء، ولا يسكت عن أي شيء، وعندما يطرح كل الأسئلة، ويقدم كل الإجابات. ونزعم هنا أن العكس هو الصحيح، فالدين يكون شاملاً حقاً، عندما يصمت عن التفاصيل، ويتسامى على الوقائع المتغيرة، ولا يطرح إجابات إلا على الأسئلة الوجودية الكبرى حول البدايات والنهايات، والمثل والغايات، والمصائر النهائية.

وفي المقابل، يتوقف عن طرح الأسئلة العلمية عن الكيف، والعملية عن الوسائل.

ولعل هذا الطريق، هو ما سلكه الإسلام، فكان حقاً ديناً شاملاً، إذ لم يدع لنفسه خصوصية علمية، تبرر ما يذهب إليه البعض قائلاً بـ «إسلامية المعرفة»، أو «إسلامية الدولة»، فلا توجد أبداً معرفة علمية إسلامية، ولا نظرية سياسية إسلامية، لأن الشأن المعرفي، كالشأن السياسي من الأسئلة العملية المنوطة بالعقل الإنساني وتطوره عبر التاريخ، وإن وجدت دوماً غايات للمعرفة العلمية، يمكن القول بأنها إسلامية، تتعلق بتمكين الإنسان من العمران، وزيادة الخير العام، أو مثل عليا للممارسة السياسية، يؤكد عليها الإسلام، تحقيقاً للعدالة والمساواة، وتحرير الإرادة الإنسانية من القهر والسيطرة، ليكون لها حق الاختيار المبرر للحساب، فهذه الغايات وتلك المثل، إنما تنبع من شمولية الإسلام الوجودية، وانشغاله بالمصير الإنساني.

في هذا السياق، يقدم الإسلام تأسيساً انطولوجياً للعلم، إذ يجعله مكوناً أساسياً في رؤيته للوجود، ويدعو المسلم صراحة إلى السعي في طلبه، وتوظيفه في خدمة رسالة الاستخلاف الإنساني على الأرض، تلك الرسالة القائمة على الجمع بين الدين والدنيا، والمؤسسة على روح جهادية بالمعنى الحضاري، تسعى إلى التأثير إيجاباً في حركة التاريخ، بانتشاله من حال العبث والفوضى والظلم التي سادت في ما قبله.

ولكن من دون ادعاء بالتأسيس الإبستمولوجي له، بمعنى تحديد مبادئ حاكمة، أو مقدمات نظرية شارحة أو قول موجب بـ (نظريات علمية)، لأن الدور الأساسي للكتب السماوية عموماً، والقرآن الكريم خصوصاً، لا يكمن في تقديم رؤى خاصة، أو مناهج تحليلية لجوانب محددة من الظاهرة الطبيعية، بل يكمن في تقديم رؤية شاملة للوجود، لا تتناقض مع العلم، تقوم على تعقل المبادئ الكونية، والسنن التاريخية بطريق السلب والإجمال.

ينأى الإسلام بنفسه عن تقديم نظرية شاملة للمعرفة السياسة، كانت تقتضي منه التفصيل في أمور عديدة، وتقديم حزمة من المقولات حول طبيعة السلطة وكيفية تشكيلها، وكيفية صوغ العلاقة بين السلطات، وكيفية تحقيق التوازن بينها، وكيفية ممارسة الرقابة عليها.. إنها أسئلة الكيف التي تشكل ما يمكن تسميته بـ (التقنية السياسية)، التي تتحدث عنها تفصيلاً النظرية الديمقراطية الحديثة في الحكم، والتي سكت عنها الإسلام، ليس ضعفاً في شموله، بل اتساقاً مع هذا الشمول، فما يراد له أن يكون شاملاً، لا بد له أن يكون عاماً، يخاطب الغايات النهائية، وينشد المثل العليا، والمبادئ المؤسسة، وأن يصمت عن وسائل وكيفيات إنزالها على دنيا الناس، فالمثل والغايات دائمة، إذ لم يتغير معنى العدل مثلاً منذ بداية التاريخ، بل ازداد ثراء، ولم تتراجع قيمة الشورى أبداً، بل ازدادت عمقاً، ولم يذبل مفهوم زهد الحكم، بل ازداد أهمية بفعل تنامي المغريات، وتعدد أبواب الفساد على نحو ما نرى ونسمع في كل العصور والعهود. أما عالم الناس فمتغير، ولذا، فإن الآليات والوسائل التي يمكن من خلالها إنزال هذه المثل على وقائعه، تبقى متغيرة، باتجاه قدرة أكبر على صوغ حركة المجتمع، ودرجة أعلى من النجاح في تمثيله.

ففي دولة المدينة اليونانية، مثلاً، كان ممكناً جمع رجالها الأحرار، باعتبارهم فقط المواطنين، في ميدان عام، للتشاور واتخاذ القرارات الكبرى. ولم تبعد دولة المدينة المنورة كثيراً عن دولة المدينة اليونانية، وإن اختلف السياق، ولذا، كانت الشورى أمراً ممكناً.

أما اليوم، في ظل التقدم الصناعي، والنمو السكاني، والاتساع الجغرافي، ناهيك عن سيادة النزعة الإنسانية والأفكار المساواتية التي أنهت ظاهرة العبودية، ومنحت النساء حقوق المواطنة كاملة، فقد صارت الديمقراطية الأثينية، كالشورى الإسلامية، أمراً مستحيلاً، وصار البديل الأكثر منطقية يتمثل في الديمقراطية التمثيلية، والتي يتم من خلالها اجتماع الشعب عبر نوابه تحت قبة برلمانية بديلة عن ميدان أثينا، وعن صحن مكة أو المسجد النبوي، للتشاور واتخاذ القرارات الحاكمة.

ولعل الأمر المؤكد، طالما كان التاريخ مفتوحاً، أن هذا النمط التمثيلي ليس نهائياً، والأغلب أن يشهد هو نفسه تحولات عديدة مستقبلاً، فطريقة التصويت تتغير الآن، وإن جزئياً، بفعل التطورات التكنولوجية، وربما ساعدت هذه التطورات بتسارعها وتراكمها، على إنتاج نظرية جديدة للحكم، تتجاوز النظرية التمثيلية تماماً، باتجاه عودة للديمقراطية المباشرة، ولكن بصورة جديدة، تتفق وبنية المجتمعات الكبيرة، من دون أن يعني ذلك تغييراً في الغايات الأساسية والمثل العليا للحكم الرشيد.