خبِرَت الأمَّة العربية، وجرّب العرب، في العقود الأربعة الماضية، كلّ البدائل الممكنة عن نهج وتيّار العروبة الذي ساد في عقديْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي. ولم يكن نهج التقوقع الإقليمي والانعزال هو وحده البديل، الذي ساد في بلاد العرب عقب عزلة مصر التي فرضتها اتفاقيات «كامب ديفيد» والمعاهدة مع إسرائيل، بل ظهرت أيضاً بدائل أخرى بألوان دينية وطائفية، بعضها كان متجذّراً في المنطقة لكن دون تأثيرٍ سياسيٍّ فعّال، وبعضها الآخر كان مفتعلاً من قوى إقليمية ودولية أو نتاجاً طبيعياً لإشعال تيّار المقاومة ضدّ حروب إسرائيلية على لبنان وفلسطين.

وقد ترسّخت في هذه العقود الماضية جملة شعارات ومفاهيم ومعتقدات، تقوم على مصطلحات «الوطن أولاً» و«الإسلام هو الحل» و«حقوق الطائفة أو المذهب»، لتشكّل في ما بينها صورة حال المنطقة العربية، بعد ضمور «الهويّة العربية» واستبدالها بمصطلحات إقليمية ودينية وطائفية.

لقد كان أيضاً بديل مرحلة «العروبة» عصر التطرّف في الأفكار، والعنف في الأساليب، والجهل في الدين، والتجاهل للوقائع ولحقيقة ما يحدث على أرض هذه الأمَّة وبين شعوبها. عصرٌ رفض الهويّة العربية المشتركة، بل ورفض أحياناً كثيرةً الهويّة الوطنية، عصرٌ أراد وصم شعوب هذه الأمَّة بتصنيفاتٍ تقسيمية للدين وللعروبة وللأوطان، وإقناع أبناء وبنات البلاد العربية بأنّ مستقبلهم هو في ضمان «حقوقهم» الطائفية والمذهبية والإثنية، وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما نرى خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب، وجعلها ساحة حروب لقوى دولية وإقليمية تتصارع الآن وتتنافس على كيفيّة التحكّم في هذه الأرض العربية وبثرواتها.

فالعرب يحصدون نتائج زرعٍ متعدّد المصادر، جرى منذ العام 1975، وقد استغلّت أطراف خارجية ومحلية سلبياتٍ كثيرة كانت ترافق فكر وممارسات الحركة القومية العربية، لكنْ بعد هذه العقود الزمنية الطويلة، ثبت أنّ «البديل الحامل للتسميات الدينية» لم يفتح آفاقاً جديدة أفضل في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء، فتحوّلت الهويّة الدينية، الشمولية أصلاً، إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتّى من اتجاهٍ سياسيّ آخر!

وكما فشل هذا «البديل» الموصوف بتسمياتٍ دينية، في توحيد شعوب هذه الأمّة، فقد عجز «البديل الوطني» أيضاً عن ممارسة مفهوم المواطنة وبناء مجتمعٍ تكون الأولويّة فيه للولاء الوطني. وثبت أيضاً أنّه لا يمكن بناء أوطان عربية سليمة في ظلِّ غياب التعاون العربي المشترك القائم على وحدة الهويّة العربية، وحيث الفهم الخاطئ للدين وللتعدّد الفقهي فيه، ولكيفية العلاقة مع الآخر، أيّاً كان هذا الآخر.

فتعزيز الهويّة الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة، على المستوى العربي الشامل، كما يستوجب تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلدٍ عربي، فذلك أمر مهمّ لبناء علاقات عربية أفضل، ولضمان استمرارية أيّ صيغ تعاونٍ عربي مشترك. وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ لأزمة العلاقات بين البلدان العربية فقط، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية ولمواجهة مخاطر الانفجار الداخلي في كلِّ بلدٍ عربي.

إنّ المدخل السليم لنهضة هذه الأمَّة من جديد، وللتعامل مع التحدّيات الخطيرة التي تستهدف أوطانها وشعوبها وثرواتها، هو السعي لبناء هُويّة عربية جامعة.

لقد سقطت بدائل العروبة في امتحاناتٍ كثيرة، لكن المشكلة أنّ هناك ندرةً حالياً في الأيدي الرافعة للعروبة!

لقد كان من الخطأ طرح القومية العربية خلال القرن العشرين وكأنها أيديولوجية عقائدية، بينما يُفترض أن تكون إطاراً للهويّة الثقافية، بغضّ النظر عن العقائد والأفكار السياسية. إذ يمكن أن تكون قومياً عربياً علمانياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً إسلامياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً ليبرالياً.. أي نستطيع وضع أي محتوى «أيديولوجي» داخل هذا الإطار القومي.

فالقومية هي هويّة، هي إطار تضع فيه محتوًى معيناً وليست هي المحتوى. فالمشكلة التي حدثت، خاصّةً في النصف الأول من القرن العشرين، تكمن في أنّ معظم من نادوا بفكرة القومية العربية قد طرحوها بمضمونٍ متناقضٍ مع الإسلام بشكلٍ أصبحت معه دعوة القومية العربية تعني للبعض الإلحاد أو الابتعاد عن الدين، عوضاً عن طرحها كهويّة أو كإطار ثقافي يشترك فيه العرب ككلّ، مهما كانت اختلافاتهم الأيديولوجية أو انتماءاتهم الفكرية أو عقائدهم الدينية.

هناك حاجةٌ وضرورةٌ عربية الآن لإطلاق «تيّار عروبي توحيدي» فاعل يقوم على مفاهيم فكرية واضحة، لا تجد تناقضاً بين الدين والعروبة، ولا بين الدولة الدستورية المدنية وبين دور الدين عموماً في الحياة العربية، ولا تجد تناقضاً بين العروبة وبين تعدّدية الأوطان بل تعمل لتكاملها، وبأن تقوم هذه المفاهيم الفكرية على الديمقراطية وعلى نبذ أسلوب العنف في أساليب الحكم والمعارضة معاً. «تيّار عروبي» تكون أولويّته الآن هي حماية الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي، وليس الانغماس في وحل الصراعات الأهلية.