انقضت المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية أو الاستحقاق الثالث في خارطة الطريق بعد إقرار الدستور وانتخاب الرئيس لاستكمال العملية السياسية والمضي في مسار التحول الديمقراطي.
ورغم إشادة كثير من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية بنزاهتها فيما عدا بعض التجاوزات التي بقيت في حدودها المعقولة، إلا أن الظاهرة العامة التي تم رصدها كانت في ضعف إقبال المواطنين على التصويت بغض النظر عن دقة الأرقام التي أُعلنت حتى الآن، والتي قد تزيد أو تنقص أو يُؤخذ بمتوسطها نظراً لتفاوت نسبة الإقبال في مختلف اللجان، وهو ما عكسته الصورة المرئية في مختلف وسائل الإعلام ومناشداتها المتكررة للمواطنين لممارسة حقهم الانتخابي بالترغيب تارة والترهيب من الغرامة المالية تارة أخرى واستخدام بعضها للعنف اللفظي ضدهم تارة ثالثة، وفي كل الأحوال وباعتبار أن الصورة لا تكذب فقد كانت هناك حالة من العزوف عن المشاركة يصعب تجاهلها. والسؤال المنطقي لماذا؟
لا شك أن للإجابة أكثر من بعد، فإذا استبعدنا من لم يشارك لأنه معارض لنظام 30 يونيو أو منتمٍ لجماعة الإخوان المحظورة، ستظل هناك كتلة تصويتية أكبر تمثل غالبية الناخبين الذين قد يكونون في النهاية غير مسيسين أو تابعين لأي من التيارات السياسية والحزبية، وهذه الكتلة هي ما تهمنا هنا لأنها تعبر عن الطبقة الوسطى الشريحة الأوسع في أي مجتمع، وبحكم التعريف فإن احتجاجها أو تعبيرها عن معاناتها يكون عادة بالسلب والانسحاب من المشاركة في الشأن العام وليس بالثورة، التي تعد ظاهرة استثنائية في حياة الشعوب لا يقاس عليها، وهو ما أظهرته الانتخابات الأخيرة ولها تفسيرات عدة.
فمن ناحية، لم يقدم أي من الأطراف المرشحة (قوائم وأحزاب ومستقلين) ما يثير حماس غالبية الناس وإقناعهم بأنهم قادرون على التغيير أو إثارة القضايا العامة أو أن لديهم برامج محددة لتحسين أحوالهم المعيشية، لم يكن هناك ما يميز المرشحين، إذ على مستوى القوائم - باستثناء قائمة واحدة معروفة إعلامياً هي في حب مصر- كانت باقي القوائم مُجهلة غير معلومة للكافة، حضورها باهت لا يوفر أي مناخ تنافسي يشير إلى تنوع وتعدد الاختيارات، وحتى القائمة الأولى التي حظيت بفرصة أوفر لمخاطبة الجمهور فقد انشغل أغلب أعضائها بالدفاع عن أشخاصهم في مواجهة ما تردد حول ارتباطهم بأجهزة الدولة، وما كان يجب أن تكون تلك هي القضية.
والشيء نفسه - أي غياب القضايا العامة - ينطبق على المستقلين الذين يشكلون النسبة الأكبر في هذه الانتخابات، فقد اعتمد أغلبهم على العوامل التقليدية نفسها القديمة أي العصبيات والعائلات والمال، وبالتالي دارت المعارك الانتخابية على أسس شخصية، بل ولم يلتفت أحد إلى أن هناك أزمة ثقة أصلاً في المؤسسات النيابية عموماً بحكم الممارسات الماضية، التي جعلت دورها يقتصر على تأييد النظام الحاكم دون مساهمة جادة في التشريع والرقابة وتطوير السياسات العامة، وهو ما ترسخ في الذهنية العامة وكان يستلزم جهداً إضافياً لإقناع القاعدة العريضة في المجتمع بعكس ذلك.
إذاً غابت السياسة والسياسيون والمناظرات والأفكار وحتى الوعود لم تحتل مكاناً يُذكر في الحملات الانتخابية إن وجدت رغم كثرة القضايا التي تستحق النقاش العام للتعرف على مواقف المرشحين فيها، بدءاً من بعض القوانين المثيرة للجدل مثل قانون الخدمة المدنية والتظاهر والإرهاب (سواء مع أو ضد أو التعديل في بعض بنودها)، إصلاح الجهاز الإداري للدولة، البيروقراطية، الفساد، المحليات، تجديد الخطاب الديني، مشروع العاصمة الإدارية الجديدة أم تطوير القاهرة العاصمة العريقة المتفردة. هذه كلها عناوين على سبيل المثال لا الحصر كان من الممكن إثارتها أو إثارة غيرها لاجتذاب الناخبين، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
ومن ناحية أخرى، كان لتدهور الخدمات العامة، ليس فقط في مجالات التعليم والصحة والمسكن وإنما في المرافق الأساسية من طرق ومواصلات وصولاً إلى أزمة توفير مياه الشرب في العديد من المناطق والمحافظات، دور في تراجع نسب المشاركة لأنها ببساطة مصدر القلق للشرائح المختلفة للطبقة الوسطى (عليا ومتوسطة ودنيا كما تُصنف)، ناهيك عن معاناتها المزمنة من ضعف الدخل وغياب أية وسائل للترفيه ولو في أبسط الحدود تخفف نسبياً من صعوبة الحياة اليومية. هذه الضغوط تُولد إحباطاً أو غضباً صامتاً يعكسه سلوكها السياسي السلبي.
إن هذه الطبقة تحديداً تتعلق بالدولة وتزداد توقعاتها منها بأكثر من البرلمان، خاصة مع تنامى مخاوفها من الدور الملحوظ والمؤثر لرجال الأعمال في الانتخابات الحالية (أسوة بما سبقها)، سواء ممن أسسوا أحزاباً أو دعموا مرشحين مستقلين أو قوائم، وهو أمر ما زال لا يحظى بشعبية.
إذ يصعب إنكار أن هناك صورة عامة سلبية – بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف معها - للحضور السياسي لهذه المجموعة بالذات التي تشكل صفوة المجتمع شديدة الثراء ولا تبحث - وفقاً لما يراه الكثيرون - سوى عن مصالحها من خلال علاقتها بالسلطة أي سلطة، وإلا لما أنفقت أموالاً طائلة في مجالات بعينها كالإعلام وإنشاء الصحف والأحزاب وتمويل الانتخابات وليس على أي مشاريع اجتماعية تمس حياة الناس مباشرة وتخلق لها قاعدة حقيقية تُغير بها تلك الصورة النمطية. لذلك فهم يُعتبرون جماعة مصالح تمارس ضغطاً من خلال هذه الوسائل للدفاع عن سياسات أوتشريعات معينة تصب في الاتجاه نفسه وهذا حقهم، ولكنهم لا يمثلون باقي فئات المجتمع.
في كل الأحوال سيتشكل البرلمان بأي نسبة حضور وليس هناك ما يدعو إلى الاختصام حول تلك النسبة أو السعي لإثبات أنها لم تكن قليلة، فليس هذا ما يهم لأنه لن يعيق استكمال هذه الخطوة الضرورية، وإنما يظل تحليل أي ظاهرة سياسية واجتماعية والوقوف عند أسبابها هو الأهم لأنه يرسم طريق الإصلاح الذي ننشده جميعاً.