أثار حضور الكاتب الأميركي توماس فريدمان، للعاصمة السعودية الرياض، بعضاً من الجدل حول الجدوى من زيارته. فالبعض يصنفه أنه كاتب ضد السعودية، وله مقالات تحاول أن توحي بأن الإرهاب مصدره السعودية. وله آراء كثيرة ينتقد فيها الدول العربية، والسعودية خصوصاً. ورغم أنني أختلف معه في بعض الآراء، إلا أن مسألة التصنيف أختلف معها، وأعتقد أنها مشكلة توجد في تفكيرنا.
فنحن مغرمون بالتصنيف، ليس ما بيننا وبين من هو في الخارج، بل حتى في داخل مجتمعاتنا. فمصطلحات التصنيفات لدينا قائمة طويلة، والكل ممكن أن يطلق عليك تصنيفاً بمنتهى السهولة، ولمجرد أنك اختلفت معه في فكرة. وهي قضية تحتاج إلى مزيد من الوقت والوعي، حتى نتخلص من آفة التصنيفات.
فريدمان كاتب مؤثر، وله آراء يختلف معها البعض، لكن سياسة الحجب والمنع هي سياسة عقيمة، وهي أحد الأسباب في تراجع الدول العربية. فأسهل الأمور، هي ممارسة المنع، فحينما تمنع كتاباً أو صحيفة أو كاتباً، فأنت تلغي فكرة الحوار، وتعطي الفرصة للطرف الآخر أن يردد ما يقوله.
بينما الحوار والنقاش هو الوسيلة الأفضل للوصول إلى تفاهم مشترك. الشعوب التي تفتح مجالها لاستيعاب الآخر، وتعطي فضاء للاختلاف، هي الشعوب الواثقة من نفسها، القادرة على صنع مستقبلها. والمجتمعات النابهة هي التي تحرص على سماع الآراء الأخرى، للاستفادة منها في حالة الاختلاف، وتعديل ما هو خطأ، أو لترسيخ قناعاتها الصحيحة إذا أدركت خطأ الرأي الآخر.
وجود كتاب مختلفين في التوجهات والآراء، والنقاش معهم، هو ظاهرة صحية. والسعودية مثلاً، كانت في مهرجان الجنادرية، تستضيف كتاباً ومفكرين من جميع التوجهات، من يسارية وقومية وناصرية وليبرالية ومختلف التيارات.
ولم تضع خطاً أحمر على طرح أي من الآراء. بل كان سقف النقاش في قاعات الندوات مفاجئاً لكثير من الحاضرين. وكنت أسمع من مشاركين في هذه الندوات، أن بعضهم سأل إذا كانت هناك مواضيع غير مرغوب مناقشتها، فكان الجواب، النقاش متاح، طالما أن الهدف منه هو تبادل الآراء بهدف الإقناع والاقتناع.
وأتيحت لي فرصة الحضور في مجلس الملك سلمان بن عبد العزيز، ووقتها كان أميراً للرياض، يستقبل ضيوف السعودية، وكان النقاش الذي يدور في المجلس، يعكس صورة فسيفسائية لمختلف التيارات والأفكار، في حوار صحي وجريء.
وتمثل الثورة في تكنولوجيا المعلومات، واحدة من العوامل التي فتحت باب النقاش ونقلته إلى أبعاد أكبر. فمن الصعب أن تضع حدوداً للنقاش الذي يدور في شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا يجعل الحكومات أكثر مرونة في تعاملها مع الوسائل الإعلامية. وأكثر تقبلاً للآراء المختلفة.
والجمهور الذي يفقد الثقة في وسائل الإعلام التقليدية، سوف يتجه للإعلام البديل، وربما يجد بدائل عديدة. والخطورة في وسائل الإعلام الإلكترونية أو شبكات التواصل، أن مصداقيتها تظل ضعيفة. والثقة في مصادرها محدودة. وقد أثبتت التجارب أن بعض الأخبار التي تتردد بين الناس في الأصل، هي خبر غير دقيق أو مختلق.
والناس تتناقل مثل هذه الأخبار، وتكتشف لاحقاً أنها غير صحيحة. ولذلك، يسأل الناس حالياً إذا سمعوا بخبر عن المصدر، حتى يتعاملوا معه بجدية أو لا. ففي ظل الانفتاح الإعلامي وسرعة الخبر، أصبحت المصداقية هي الضحية في كثير من الأحيان.
وفتح الأبواب للصحافة والإعلام الأجنبي، ظاهرة صحية. ودلالة ثقة. وسوف تنعكس إيجاباً على سمعة البلد خارجياً. ونستطيع أن نكسب بعض النخب العالمية إلى جانب قضايانا ومواقفنا. فنحن في نهاية المطاف أصحاب قضايا عادلة، وربما لم نستطع أن نسوق أنفسنا بالشكل المطلوب. وهذا يتطلب فتح الحوار مع الآخر، والترحيب بالكتاب والإعلاميين.
وينتقد البعض أن الإعلامي من خارج الدولة، يجد اهتماماً أكثر لدى المسؤول، وربما تفتح له أبواب، وتتاح له لقاءات لا تتاح للإعلامي المحلي. وفي اعتقادي، أن الأولوية يجب أن تكون للإعلامي المحلي. فحينما تكون الأولوية للإعلامي الأجنبي، يكسب مساحة أكبر، وتفقد الثقة في الإعلامي المحلي. وهذا ربما يطرح نقاشاً جدلياً حول من المهم، الرسالة أم المرسل.
الانفتاح على الآخر والتواصل مع مختلف الأفكار والتيارات، لا يعني تقديم فئة على فئة، بل هو تأكيد على وجود منصة كبيرة يتم النقاش من خلالها، والاختلاف وتبادل الآراء.
ولذلك تلجأ كثير من الدول إلى المهرجانات، كوسيلة تسويقية للبلد، ولإيصال فكره ومكتسباته للآخرين. وتكتشف أن أسوأ شيء في الإعلام، هو الانطباعات أو الصورة النمطية، ولذلك يختلف رأي كثير من الإعلاميين الأجانب في رؤيتهم لواقع أي دولة بعد زيارتهم لها ورؤيتهم للحقائق.
وتمثل زيارة فريدمان ولقاؤه مع شرائح مختلفة من المجتمع، واحدة من الوسائل الذكية لإيصال فكرنا، وفي نفس الوقت للاستماع والتعرف إلى رؤية الآخرين. وليس من المنطقي، أن نظل نتحاور في الداخل، ونعتقد دائماً أن الكل يستمع لنا. فالقضية ليست داخلية، بقدر ما هي تغيير للصورة النمطية، وإيصال فكرنا وصوتنا للآخرين، بشكل يعكس واقعنا وسلامة مواقفنا.
فتح الباب للإعلاميين والكتاب، خطوة مهمة، وتساعد في تقديم صورة إيجابية. وإذا كنا نتكلم الآن عن قوة وتأثير الإعلام من خلال المؤثرين في هذه الصناعة، فهذا يتطلب منا أن نعزز من التواصل مع الآخرين، ونرحب بمن يرغب في الزيارة. وطالما أننا نمتلك الثقة في أنفسنا، ولدينا القناعة أننا أصحاب قضايا عادلة، فمن المفترض أن يكون صوتنا أعلى، ليس بالضجيج الفارغ، ولكن بقوة الحق والمنطق.