الصوت القادم من الرياض يصل بقوة الى صناع القرار السياسي في العالم‫.‬ والسعودية تمارس سياسة خارجية جديدة تستند الى الحزم والوضوح والانفتاح وربط المصالح مع دول العالم‫.‬

هناك قيادة سعودية جديدة على رأسها ملك متمرس في صناعة القرار السياسي‫، وهناك فريق جديد يضع بصمته بروح الشباب والمبادرة‫.‬ ومن الطبيعي أن يكون هناك ايقاع ورؤية للسياسة السعودية‫ فهناك فريق جديد وهناك معطيات جديدة على الساحة الاقليمية والدولية. ‬

والسياسة السعودية تستند الى ثوابت راسخة على مر العقود الماضية تنطلق من الدائرة الأولى الخليجية ثم الاقليمية العربية والاسلامية، وتتمسك بسياسة حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وفي نفس الوقت عدم السماح لأي دولة للتدخل في شؤونها الداخلية.

ومن الثوابت في السياسة السعودية سعيها لدعم الأمن والاستقرار العالمي وممارسة دور في هذا المجال من خلال المنظمات الاقليمية والدولية.

وإذا كانت هذه الثوابت راسخة في النهج السياسي السعودي‫،‬ إلا أن التكتيك السياسي والمقاربة السياسية لتحقيق الاهداف أخذت اسلوباً جديداً يعتمد على سرعة اتخاذ القرار وأخذ زمام المبادرة كدولة محورية قيادية في المنطقة‫.‬ كما أن الظرف السياسي الاقليمي فرض واقعا جديدا في المنطقة وعالميا‫.‬

فعلى المستوى الاقليمي تعرضت منظومة العمل العربي المشترك الى هزة كبيرة بغياب دولة مهمة نتيجة ما سمي بالربيع العربي‫،‬ ومن الناحية الدولية تراجع الدور الأميركي دوليا نتيجة تغير الاولويات في السياسة الأميركية الخارجية‫.‬

السياسة السعودية تنتهج فلسفة تقوم على ربط المصالح مع دول العالم في الشرق والغرب وتمارس الواقعية السياسية التي تستند الى منظور براغماتي عملي‫.‬

والبراغماتية في السياسة أن تبحث الدولة عن مصلحتها وقوتها اينما وجدت‫، وهي الاسلوب‬ في العمل السياسي الذي يرمي الى ان الفكر لا يمكن له بلوغ الهدف من الحقيقة إلا بمقدار استناده الى الواقع‫.‬ وفي الحالة السعودية نقصد بها التحول والتطور في الاسلوب والتواصل مع الآخرين‫، وفي نفس الوقت تتمسك بثوابتها الاستراتيجية‫.‬

ومن يراقب تحركات الرياض السياسية والاقتصادية يدرك هذا النهج، ففي الاسبوع الماضي كانت السعودية تنقل علاقاتها مع موسكو الى مرحلة جديدة فقد عقد في روسيا اجتماع منتدى الأعمال الروسي السعودي. وتم ابرام اتفاق لإنشاء صندوق استثماري بقيمة اربعة مليارات دولار يقوم بتمويل مشروعات مشتركة ويسهم في تنمية العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين.

وهذا بالإضافة إلى صندوق استثماري آخر بقيمة 10 مليارات دولار اتفق على إنشائه صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي وصندوق الاستثمارات العامة السعودي. وهي ترجمة لنتائج زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي الى موسكو.

وفي نفس الوقت تعزز السعودية علاقاتها العميقة مع واشنطن وتبني مشروع شراكة ضخم مع الولايات المتحدة أثناء زيارة الملك سلمان عبدالعزيز إلى العاصمة الأميركية قبل عدة اسابيع.

ونقلت السعودية علاقاتها مع فرنسا نقلة نوعية في بلورة مواقف سياسية متطابقة تجاه القضايا الاقليمية وشراكات اقتصادية واسعة دشنت في ملتقى الاعمال السعودي الفرنسي الضخم في الرياض الشهر الماضي. وقبل اسابيع استضافت الرياض قمة عربية لاتينية مهمة فتحت المجال لعلاقات سياسية واقتصادية بين السعودية ودول اميركا الجنوبية.

والفكرة التي تريد أن تقولها الرياض إن مصالحنا منفتحة على الجميع وما يحقق المنفعة لمصالحنا وشعبنا فإننا سنبادر. واختلاف وجهات النظر لا يعني القطيعة.

فهناك تباين سعودي روسي حول الملف السوري، ولكن الرؤية السياسية تقول إن خلافاً في ملف معين لن يوقف بناء علاقات ومصالح. والرؤية الأكبر هنا أنه حينما تبنى مصالح ضخمة فان القرار السياسي في نهاية الأمر سيرتهن للمصالح الاقتصادية.

السياسة السعودية الجديدة لم تقف عند حدود الدول الكبرى فقط بل اتجهت الى القرن الافريقي والدول الافريقية وعززت علاقاتها السياسية والاقتصادية وخلال الفترة الماضية زار الرياض كثير من زعماء هذه الدول واتجهت استثمارات سعودية الى هناك.

وأدركت الرياض أن أي فراغ سياسي في أي محيط يعطي فرصة لدول أخرى هدفها التشويش وإثارة الفوضي في الدخول في هذه الفراغات.

ومن منطلق الثوابت للسياسة السعودية في انطلاقها من الدرجة الأولى من الدائرة الخليجية، كانت الشراكة الاستراتيجية بين السعودية والإمارات مرتكز سياسي شهد تطورا ملحوظاً في معالجة قضايا المنطقة وملء فراغ سياسي اقليمي مقلق.

كما عكست الشراكة والتجانس العالي في عاصفة الحزم بين الدولتين ومشاركة الدول الخليجية ترجمة واضحة لفكر سياسي جوهري، إن الخليجيين أمامهم مسؤولية لإدارة شؤونهم بأنفسهم وعدم انتظار مبادرات من دول خارجية. نعم السياسة السعودية تمارس بأسلوب جديد ونبض مختلف.

وهذه مسألة طبيعية فالدول التي تتجدد وتتأقلم مع المتغيرات هي الدول القادرة على الاستمرارية وحماية بلدها من التهديدات. والعالم في لغة السياسة شرق أو غرب، يحترم الدول القوية التي تملك القرار السياسي والتأثير الاقتصادي.