لا شك في أن ردود الفعل من جانب بعض القوى الغربية تجاه حادث إسقاط طائرة الركاب الروسية فوق أراضي سيناء قد ألحق الكثير من الضرر بالدولة المصرية، وحتى إذا ما أخذنا في الاعتبار ضرورات الأمن القومي التي تدفع الحكومات لاتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لحماية مواطنيها داخل أراضي الدولة وخارجها، إلا أن واقعة الطائرة الروسية على وجه الخصوص وما صاحبها من إجراءات تجاه مصر اتسم بالتطرف الحاد في استخدام هذا الحق، خاصة إزاء عمل إرهابي يستوجب التكاتف الدولي بحثاً عن الجناة على غرار ما حدث في هجمات باريس بدلاً من التكالب على الضحية وترك الجلاد.
تلك كارثة كبرى لحقت بالدولة الروسية ولكنها أصابت الدولة المصرية بخسائر جسيمة، ليس على الصعيد المعنوي فحسب متمثلا في الصورة والمكانة ودرجة الاستقرار الأمني أمام العالم الخارجي، ولكن على الصعيد الواقعي خاصة ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية، فمن الواضح أن خسائر جسيمة ستلحق بالقطاع السياحي المصري لتكون الخسارة مضاعفة، حيث تعد السياحة في المرحلة الراهنة من أهم قطاعات الاقتصاد والموارد الخارجية.
وكانت هناك مؤشرات قوية على أن هذا القطاع قد بدأ بالتعافي وأن مصر على موعد مع موسم سياحي رائع يعيدها إلى وضعها الطبيعي الذي كانت عليه قبل ثورة يناير 2011، حيث بلغت عوائد السياحة أربعة عشر مليار دولار فضلا عن تشغيل الملايين من أبناء الشعب المصري وتحريك قطاعات اقتصادية أخرى يعتمد نشاطها بشكل أساسي على الحركة السياحية.
أضف إلى ذلك دور هذا القطاع في بناء رصيد قوي من الاحتياطيات الدولية وقدرته على استعادة نفسه بسرعة وتحقيق عائدات سريعة لوجود بنية سياحية تحتية جاهزة للانتعاش في أي لحظة فضلا عما تمتلكه مصر من مقومات سياحية تجعل من السياحة في مصر صناعة حقيقية يمكن التعويل عليها.
ولذلك ليس مبالغة التأكيد على أن الخسائر مضاعفة لأن مصر حرمت من كل ذلك في وقت ينوء فيه الاقتصاد بمشاكل عميقة متعددة الأشكال والأنواع. ولا نريد أن نقول إن السياحة كانت كالقشة التي يتعلق بها الغريق لأن مصر بالفعل أقوى من المأزق وكثيرا ما تعرضت لمشاكل أخطر من ذلك بكثير ولكن المؤسف أن الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بالشعب المصري معقدة وفي مرحلة الخطر بالفعل.
ولكن في مواجهة الأزمات الطارئة والأوقات الصعبة، لا مجال لجلد الذات أو البكاء على اللبن المسكوب، خاصة إذا ما كانت في نطاق أكبر وأشمل من الحدود الجغرافية وخارج نطاق السيطرة المحلية، وأيضا إذا كانت مترتبة على عوامل خارجية متكررة ومتبدلة في الآن ذاته، فيصبح التوجه الأمثل هو البحث عن البدائل المتاحة والمؤكدة والمحتملة لتجاوز الصعاب بأقل التكاليف والسلبيات الممكنة، وهنا تبزغ مخاطر الاقتصاد أحادي الجانب المعرض لهزات كبيرة لأي تحولات داخلية وخارجية كالبورصة التي تواجه أي تقلبات أو تغيرات مفاجئة بحساسية أعلى.
وعلى سبيل المثال، ليس خافياً أن العديد من المؤسسات والهيئات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان كثيرا ما طالبت منذ سنوات السبعينيات في القرن الماضي بضرورة تنويع الأنشطة الاقتصادية للدول المنتجة للنفط بحيث لا تتحول إلى دول ذات نشاط اقتصادي أحادي يعتمد فقط على إنتاج النفط وتصديره.
والحقيقة أن دولاً نفطية عديدة لجأت بالفعل إلى تحقيق هذين المطلبين ولو بدرجات متفاوتة، فأصبحت هناك أنشطة صناعية وتجارية وزراعية وصناعية تسمح بتشغيل عمالة كثيفة وتحقيق إنتاج كمي يغطي جانبا من الاستهلاك المحلي وكذلك التصدير للخارج والأهم من ذلك هو دخول أنشطة تلك المجالات ضمن مصادر الناتج القومي للدول، وقد استطاعت دول بترولية كالإمارات بفضل تلك السياسات خفض اعتمادها على البترول كمصدر للدخل إلى نحو 33% ووصلت في السعودية إلى أقل من 90% على وجه التقريب، وفي عمان تتراوح النسبة بين 75% و80%. إلا أن المخاطر تظل قائمة مادام النشاط الاقتصادي يعتمد على نمط أو مجال واحد.
وهو ما يحدث بالقطع في الحالة المصرية مع السياحة، حيث اعتبرت في مراحل كثيرة قاطرة التنمية، وتلك مقولة لا يجوز القبول بها في دولة بحجم مصر يتجاوز عدد سكانها التسعين مليون نسمة وفي أمس الحاجة إلى تنويع اقتصادها بشموله شتى المجالات.
والشيء الغريب أنه رغم امتلاك مصر لمقومات سياحية هائلة ربما لا يوجد مثيل لها في أي مكان بالعالم بعمقها الحضاري والتاريخي وتنوعها الثقافي المدهش إلا أن ما يجب عمله في سبيل تحويل السياحة إلى قاطرة حقيقية للتنمية لم يتم حتى في أفضل الظروف، بل إن حلقات هذا القطاع كانت تضيق بشكل مؤسف.
فمن السياحة الشاملة والمتنوعة بدأت تختفي مقاصد سياحية وبرامج تقليدية لصالح أخرى حتى تراجعت السياحة التاريخية أو ما يسمى بالسياحة الثقافية لصالح السياحة الشاطئية، وليت الأمر توقف عند ذلك فقد ضاقت حلقات السياحة الشاطئية ذاتها لتنحصر في سياحة شواطئ البحر الأحمر ثم تنحسر مجدداً لتصبح شرم الشيخ فقط، وبذلك أصبحت السياحة المصرية بل واقتصاد الدولة رهينة لما يحدث في هذه المدينة!
ومن ثم وحتى لا نخنق أنفسنا أكثر وأكثر فلابد من الخروج من هذه الدوائر الضيقة الخانقة بتنويع الأنشطة الاقتصادية وإحياء كل قطاعات الدولة الزراعية والصناعية والتجارية وعدم الاكتفاء بـ«بورصة» السياحة، وربما تحتم تقلبات أسعار البترول وتراجعها عالمياً بشكل حاد مقاربات مماثلة في الدول البترولية الأشد اعتماداً على مصدر واحد أو أساسي للدخل.