يفشل عالمنا في مواجهة الإرهاب بفعل افتقاده للاتساق الأخلاقي الضروري، طالما استمر بعض المسلمين في نفاقه وأحياناً تبريره، وبعض الغربيين في احتضانه وأحياناً توظيفه، وطالما تصور البعض أنه بعيد عنه قياساً إلى الآخرين، أو أن مسؤولية الآخرين عنه أكثر من مسؤوليته هو.
فالإرهاب المعولم، على النحو الداعشي، لا يعكس فقط تطرفا دينيا بل يمثل مسالك احتجاجية عدة لطيفٍ هائل من البشر، إما على غياب الحرية وشيوع الفقر في العالم ما قبل الصناعي، أو غياب المعنى وذبول الذات الفردية لدى العالم ما بعد الصناعي، وما بين هذين الطرفين ثمة نزعات عبثية لمتطرفين دينيا ومهووسين جنسيا، وكذلك مشاعر عدمية لفوضويين أخلاقيين ومرضى نفسيين يُسقطون عقدهم على الآخرين، ويبحثون عن خلاص مأساوي لحياة بلا مغزى.
وهكذا تفرض أي مواجهة جادة مع ذلك المارد توافر أخلاقية كونية، وتكاتف إنساني دفاعا عن مبدأ الخير العام، وذلك على ثلاث أصعدة أساسية:
أولها: المجتمع القاعدي، حيث يتشكل الخير العام في قالب منظوم القيم الأخلاقية المشتركة بين الأديان والمجتمعات، فعبر التبشير بالمثل العليا التي تعبر عن الإنسانية كلها، تكتسب الأديان قدرة كبيرة على البقاء، وطاقة لا نهائية على التجدد.
ولعل إحدى أبرز القضايا التي تعكس هذا الأفق يتمثل في تحدي أخلاق ما بعد الطبيعة وبالأدق الشذوذ الجنسي وزواج مثلي الجنس التي تسعى إلى هدم الأخلاق الكلاسيكية والقيم الدينية، كونها ضد حال العمران الذي تنميه العلاقة الطبيعية، وكونها تهديما للأسرة التقليدية كنواة أثبت التاريخ أنها الأفضل لبناء المجتمعات.
وعلى الرغم من التناقض الذي قد يراه البعض بين مبدأ الخير العام، الذي يقيد حرية الإرادة بخيوط المسؤولية الإنسانية، وبين النظريات الليبرالية الحديثة القائمة على الحرية المطلقة، والتي تعتبر الخير العام مجرد تحصيل خيارات الذوات الفردية الحرة، فإنه يبقى تناقضا ظاهريا، لأن تحديد معايير كلية وسقوف عليا للخير والشر جميعها أمور لا تنال من إرادة الفرد ولا من حريته في ارتكاب الأفعال الخيرة أو الشريرة، حيث الفارق كبير بين وضع معايير عامة وكلية للخير، يمكن للأفراد أن يستلهموها، وبين جبر هؤلاء الأفراد على السير نحوها.
وهى قضية تشبه، على وجه العموم، قضية القانون، باعتباره قواعد عامة مجردة تحدد الخطأ والصواب، وهو مطلب أساسي لكل مجتمع متمدين. فعلى الرغم من أن وجود تلك القواعد لا يضمن صلاحية جميع المواطنين، فإن غيابها يوقع المجتمعات في قبضة نزعة أخلاقية نسباوية، تنمو معها التوترات النفسية، وتتزايد السلوكيات العدمية.
وثانيهما: الدولة، التي يتوجب تقديم نقد أخلاقي لطريقة عملها يدفعها للعمل وفقا للمعايير الصحيحة التي تنبع من المجال السياسي نفسه، أي محاكمتها بمعاييرها الأكثر أصالة وصدقية في التعبير عن دورها في المجتمع الحديث.
وهنا يتجسد مبدأ «الخير العام الكوني» في مساءلة العقائد الأمنية القومية المعتبرة لدى الدول، وهل تنبع من احتياجات ضرورية، وتحقق غايات أساسية، أم أنها تعكس ميولا عدائية، وتبغي تحقيق غايات استعراضية؟. وهل ثمة معقولية للأسلحة النووية رغم قدرتها على التدمير الشامل والمتبادل، ما يجعلها سلاحا لا عقلاني ولا إنساني من وجهة نظر مفهوم الخير العام والضغط الاقتصادي.
أما ثالثها: فهو السوق الرأسمالية المعولمة، من خلال مساءلة ادعاءاتها بالعمل وفق آليات لا شخصية ولا أخلاقية.
قديما تحدث آدم سميث عن اليد الخفية للسوق الرأسمالي باعتبارها آلية تصحيح تلقائي لتشوهات هذا السوق على أصعدة الإنتاج والتجارة وتوزيع الثروات بين الأمم، وهو فهم لم يكن صحيحا بالمطلق، أوقع العالم في أزمات، على رأسها الكساد الكبير نهاية عشرينيات القرن الماضي، حتى أتى ماينرد كينز مصححا تلك التشوهات عبر هندسة آليات جديدة دشنت مفهوم دولة الرفاه، وأسهمت في تعطيل المد الشيوعي داخل أوروبا، وأدت فيما بعد إلى إسقاط التجربة السوفييتية.
ومنذ العقدين، تبدى خطاب العولمة كيد خفية جديدة، تنادي بالسوق الرأسمالي الكوني، المتجاوز لحدود الدول، المقتحم لسيادتها، باعتباره حكمة الزمن الجديد، التي لم تساءل بعد، أو بالقدر الكافي على الأقل.
وإذا كان طرح تلك الأسئلة انطلاقا من اعتبارات عملية: اقتصادية، ومالية، وتجارية أمرا واجبا، فالواجب الأكبر يقع على عاتق الأديان في طرح أسئلتها الخاصة جدا ولكن الإنسانية تماما والمعاصرة بالضرورة، حول العلاقة بين الثروة والأخلاق، وبين التقدم والأخلاق، وبين السعادة والأخلاق، لإضافة آفاق جديدة وأبعاد روحية للمسيرة الإنسانية، التي لا يكفي لسلامتها واستقرارها التزامها بالآفاق العملية والأبعاد المادية وحدها.
ذلك أن الشراكة الإنسانية لم تكن من الوضوح في زمن من الأزمان قدر وضوحها اليوم، حيث استحال العالم قرية كونية بحق، كل طرف فيها مؤثر في الآخرين ومتأثر بهم، مسؤول معهم عن إدارة تلك القرية وسلامتها من الأنواء العاصفة والمطامع الهدامة.
ورغم أن مثل هذه الخطاب المؤنسن قد انطلق بالفعل تحت لافتات مختلفة لعل آخرها الفلسفات البيئية، التي عقدت في ظلها قمة المناخ الأخيرة، باعتباره العنصر المشترك بين سكان الكوكب، فإن إسهام الأديان، بما لها من تأثير نافذ عميق، في بلورة مدونة أخلاقية مشتركة ترسخ معنى الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض، لا يمثل فقط إضافة كمية لهذه الخطابات، بل إضافة نوعية شديدة العمق والفعالية، تثري مسيرة الإنسانية نحو الخير الكوني، وتنمو في سياقها قدرة الدين نفسه على تلبية حاجات العصر.