يزعم نيتشه أن الأديان من إبداع الضعفاء لاستدرار عطف الأقوياء بإثارة مخاوفهم من عقاب قوة كبرى (إلهية)، أو بحفز مطامعهم في رعايتها. أما ماركس فيزعم العكس، أي أن الأقوياء هم من اخترعوا الأديان لسلب وعي الضعفاء، تبريراً لواقعهم السيئ بالقدر الإلهي، والتعمية على مآسيهم في الملكوت الدنيوي، بأحلام الخلاص والجنة الموعودة في الملكوت الأخروي، فأيهما أقرب إلى الصدق؟

يبدو كلاهما مخطئاً في إهمال الحضور الإلهي، ومن ثم الدوران في فلك تفسير مادي أحادي البعد يهمل ذلك القبس النوراني الذي يضيء نفوسنا، ويصوغ فضائلنا ويمنحنا الأخلاقية التي يتشدق بها جميعنا، ويسعى إليها أغلبنا، ويقصد إليها بعضنا ولو على طريق الآلام. ماركس، لم يرَ سوى الحقبة الزمنية التي عاشها، أو قبلها بقليل، حيث الصراع الإيديولوجي المحتدم بين الرأسمالية والشيوعية..

والدين أداة معتبرة في هذا الصراع قبل ماركس وبعده. أما نيتشه فمد نظره إلى التاريخ بأسره، حيث مثل الدين وحده، وعبر عصور طويلة، الرافد الأساسي للتراحم الإنساني والصهر الاجتماعي، الذي منح الكثيرين من البسطاء والضعفاء شعوراً بالثقة في أنفسهم، وفي إمكانية مساواتهم للآخرين.

فأمام الله وحده يتساوى الفقراء مع الأغنياء، ويتماثل الأصحاء مع الضعفاء، ويتقارب المشاهير مع المغمورين. بل أن المسيحية قد ميزت الفقراء والضعفاء والمغمورين على الأغنياء والأقوياء والمشاهير، إذ اعتبرتهم الأقرب إلى ملكوت الله.

الحضور في كل مكان آخر وعبر كل مجالات الحياة كالعلم والفن والفكر والرياضة، إنما يؤكد عدم المساواة بين الناس، وعلى الهوة الواسعة بينهم. فذلك عالم كبير برز نجمه فلا يقاربه آخر من بين العلماء ناهيك عن العوام. وذلك مفكر كبير تفوق في إسهامه الفلسفي أو الأدبي على نظرائه المشاركين له في مجاله، ناهيك عمن هم خارج مجاله.

وذلك بطل رياضي أطبقت شهرته الآفاق وجاوبت أصداؤها جنبات الكون في عصر الفضاء، تراه على صدور الشباب وعلى حوائط البنايات ناهيك عن الصحيفة والتلفاز، فمن يفكر في مناطحة شهرته وحظوته من زملائه الأقل موهبة ناهيك عن عموم الناس؟

ثمة ميزة حاسمة لبيوت الله كونها لا تفتح أبوابها فقط للضعفاء، وتغلقها أمام الأقوياء، كما تفعل بعض منتديات الفقراء بل تفتحها أمام الجميع، حيث يتمكن الفقير والمريض والضعيف من الوقوف كتفاً بكتف، وقدماً بقدم، مع نبيل أو وزير أو سفير.. يحدث ذلك في المساجد والكنائس والمعابد، في الصلاة والحج والصوم.. إنها اشتراكية التوحيد، حيث الإيمان بالله والتمركز حوله، والأخوة فيه تفتح الباب على كافة أشكال التراحم والتضامن بين المؤمنين، من الزكاة إلى الصدقة إلى جميع أعمال الخير.

وربما اعترض هنا أحد مؤكداً أن بعض أعمال الخير قد تختلط بالرياء، تخدم مصالح محددة برسم صور معينة لأصحابها، وهو اعتراض صحيح لأن هناك من يقصدون الظاهر، ممن تكون أعمالهم كالزبد يذهب جفاء، ولكن ليس دائماً لأن هناك من يقصدون الباطن، فتبقى أعمالهم أبداً لأنها ابتغاء وجه الله ونفع الناس.

والمؤكد هنا أن وجود من يزيفون الخير لا ينفي وجود الخير نفسه، كما أن زيف من يتلبسون صورة الأخيار لا ينفي وجود الأخيار أنفسهم.

يؤكد العقلانيون الماديون أو النفعيون، أن أي شخص يطيع المعايير الأخلاقية العامة في وقت لا يطيعها فيه أحد، أو يفقد بعضاً من ماله حباً في الآخرين، ورعاية لهم، إنما هو شخص أحمق يتصرف ضد العقل، لأنه لم يستطع استثمار أمواله، وعطل دورة حياتها الرأسمالية. أما المؤمنون بالله، في كل الأديان، فيرون أن رعاية الفقراء منتهى العقل، وقمة الذكاء، لأنها قربى إلى الله..

ولأنها تضمن الملكوت الثاني (الإلهي) في عالم الغيب لذلك الغني أو القوي الذي تمكن من فك شفرة الملكوت الأول (الدنيوي). بل أن كثيرين من المؤمنين، يشعرون أنهم بتلك الرعاية وذلك الإنفاق يزيدون من ثرواتهم في الدنيا نفسها، ولكن كيف؟ تحدث جون كالفن من داخل المسيحية عن ذلك المؤمن الطهراني، الزاهد في الثراء ولكن النشيط في الدنيا لا حباً للمال بل لله ..

حيث يشعره النجاح في الدنيا برضا الله ومحبته، فيكون نجاحه الدنيوي أحد علامات خلاصه الأخروي، وهو الفهم الذي أعاد ماكس فيبر اكتشافه مطلع القرن العشرين مبرراً به انتشار الرأسمالية في العالم المسيحي.

أما المسلمون فمأمورون منذ البداية بالسعي في مناكب الأرض والإنفاق في سبيل الله ليبارك لهم في أرزاقهم، حتى أن المخلصين منهم يسمون إنفاقهم «تجارة مع الله»، فما ينفقونه في سبيله ولأجل عباده، إنما يعود إليهم سبعة أضعاف وسبعين ضعفاً وإلى سبعمئة ضعف كما يبشرنا القرآن الكريم.

وهكذا تمتلك الأخلاق الدينية مثاليتها الذاتية، ومعقوليتها الخاصة، فليس الإنفاق سذاجة، ولا الصدقة غباوة، ولا العطاء باسم الله لعباد الله إهدار لجهد الذات، بل جميعها تمثل طموح الإنسان إلى الرحمة ونشر الخير في العالم من حوله، ومقاومة الشر الكامن في نفسه، والذي يسعى لتعويق مسيرته النبيلة نحو الترقي والعمران، وهي المسيرة الأكثر تعبيراً عن دوره السامي كخليفة لله على الأرض.