خلال العصر الحجري القديم، كانت كل فكرة وحركة تقريباً تستهدف الحصول على الغذاء، بل ان الرسامين في الكهوف خلال ذلك العصر رسموا الثور الأميركي، فيما الرجال يطعنونه بحرابهم، وذلك لاعتقادهم بأن رسوماتهم ستكون بمثابة ضمان للصيد الجيد.

غير أن الزمن والمناخ تغيرا، لتصبح أوروبا أكثر دفئاً، وتنتشر الأغصان الفضية لأشجار البتولا والصنوبر عبر السهول، وتختفي القطعان الكبيرة، على الرغم من وجود لوحات الرسامين السحرية والصيادين، شرع الناس يجدون أن الغذاء شحيح على مدار السنة.

بعدها عمد الرجال مجدداً لنصب الشراك، وصيد الأسماك والحيوانات بأقصى ما في وسعهم، في حين سعى آخرون للحصول على الحبوب، والفاكهة البرية، ولجمع بذور زنبق الماء، وعلى الرغم من كل ذلك، كان نمط الحياة في شرق البحر الأبيض المتوسط يتغير ببطء.

فلم تنم أي غابات كثيفة لتغطي النباتات الوفيرة والطرائد. وتعلم الناس هنالك، بشكل تدريجي، سبلاً أفضل للحصول على المزيد من الغذاء.

وبمساعدة الكلاب، التي تم ترويضها كذلك في أوروبا خلال ذلك الوقت، تمكن البشر من تطويق المواشي والأغنام والغزلان البرية في حظائر من صنعهم، من خلال أغصان الأشجار المقطوعة. وبتلك الطريقة تمكنوا من إبقاء عدد قليل من الحيوانات على قيد الحياة.

ومنذ حوالي عشرة آلاف سنة، حقق بعض أوائل رعاة الماشية اكتشافاً عظيماً تمثل في أن حليب الحيوانات كان مفيداً بالنسبة إلى البشر. ليبدأ الناس بتربية الماشية والأغنام والماعز ليس لأجل لحمها وجلدها وحسب، بل أيضاً للحصول على الحليب.

وبما أن قطيع الماشية لا يمكنه العيش للأبد بتغذيته بمقدار ضئيل من الأعشاب، بدأ الرعاة الأوائل بالترحال مع حيواناتهم المروضة من مكان لآخر، والسفر دائماً، حيث تنمو الأعشاب بصورة أفضل. وبتلك الوسيلة وجدوا أنفسهم، غالباً، يعيشون في سهول واسعة النطاق، بعيداً عن الحبوب والفاكهة والتوت.

وفي الوقت الذي تعلم البشر تناول بذور الأعشاب، أكلت مواشيهم معهم. وفي أحيان أخرى، قد تجد إحدى العائلات رقعة تنمو فيها الأعشاب بكثرة. ليتغذى أفرادها بشكل جيد، وتعمد بعدها السيدة الحكيمة في العائلة لنثر البذور في طقس لشكر آلهة النماء.

وفي العام التالي يعود الناس أدراجهم. ومن هنا أخذ الإنسان الخطوة العرضية الأولى للزراعة. إذ مرت آلاف السنين من العصر الحجري القديم قبل أن يدرك إمكانية تحكمه بإمداداته الغذائية عن طريق تربية الماشية، وزراعة النباتات حيث يريد.

وبهدف استكمال التغيير من جمع الغذاء وصولاً لإنتاجه، توجب على إنسان العصر الحجري اختراع مجموعة جديدة تماماً من الأدوات. فالأدوات التي بحوزته في ذلك الحين كانت لصيد الحيوانات والأسماك واقتلاع الجذور. وربما تمثلت أول أداة للزراعة بسكين مثبتة بمقبض من العظم أو الخشب.

بحيث كانت تستخدم لقطع المحاصيل بشكل أفضل مما يمكن لأيادي المزارعين فعله. ومن المحتمل أن أوائل الناس الذين استخدموا مثل تلك السكاكين، تمثلوا بأولئك الذين عاشوا في كهوف جبل الكرمل بفلسطين، قبل ثمانية آلاف عام.

بحلول نهاية العصر الحجري القديم، كان المزارعون في الشرق الأوسط الجديد يشتغلون بنجاح مع الطبيعة لإنتاج غذائهم، في حين لا يزال الصيادون الأوروبيون ينتزعون لقمة العيش الشحيحة بقوة من الطبيعة. وقبل بدء الزراعة، فإن العالم بأسره دعم نحو خمسة ملايين نسمة. أما اليوم فهو يدعم ما يصل إلى خمسة آلاف مليون شخص.

لقد كانت أولى القرى الزراعية مكتفية ذاتياً، بحيث تم تدبير إنتاج كل قرية لغذاء يكفيها، وأكثر من ذلك بقليل. ولكن طرأ تغيير كبير مع اختراع مصاهر النحاس في الشرق الأوسط. إذ توقف أفضل صناع الأدوات عن إنتاج الغذاء، وبدأوا بصنع أدوات أفضل للمزارعين. وقد اتجه بعضهم لصنع الأواني، وآخرون لصنع القوارب، ونسج الملابس، وأصبح غيرهم خبراء في البناء.

أما في بلاد ما بين النهرين، حيث يعتقد العديد بازدهار جنة عدن، كانت عملية زراعة المحاصيل الغذائية سهلة على وجه الخصوص.

ولكن على نطاق واسع، نما عدد قليل من الأشجار في التربة الخصبة العميقة في السهول المنبسطة من نهري دجلة والفرات، وذلك وقت اختراع مصدري الغذاء لعربات بعجلات تجرها ثيران، وسفن أكبر مع أشرعة. وبتلك الطريقة بدأت التجارة والنقل. ليزدهر شعب بلاد ما بين النهرين بالتجارة، ويساهم في بناء أكبر القرى والبلدات والمدن.

وفي حين كانت الحقول حول مدن بلاد ما بين النهرين تكفي لإطعام شعبها. إلا أن روما، وهي أول مدينة تقارن بحجمها مع المدن الكبرى في العالم الحديث، اضطرت للنظر لأبعد من ذلك بكثير بالنسبة إلى إمداداتها الغذائية، بحيث تطلعت لأراضي القمح في مصر.