تكفي نظرة سريعة إلى منطقتنا الفوارة بالصراع، لاكتشاف أن المشكلات المتفجرة بين أطرافها أو بينهم والعالم من حولهم تشبه كثيرا تلك التي كانت في الخمسينات والستينات، مع فارق أساسي وهو أن صراعات عصر التحرر العربي دارت حول الفكرة القومية..

وهي فكرة حداثية، جمعت أطيافا من الدول الوطنية، فيما الصراعات الجارية تدور حول مقولات الإسلام السياسي، التي تحتفي بالمذهب والطائفة وتريق على مذبحيهما دماء الدولة الوطنية، حيث أفضت مآلات الربيع العربي إلى خلق مآزق عديدة في ليبيا واليمن والعراق وفي سوريا التي عاد الصراع حولها وعليها ليحتل بؤرة تفاعلات الإقليم.

اليوم تعود روسيا إلى صراعات المنطقة وتوازناتها بحثا ليس فقط عن المياه الدافئة حسب طموح عصر القياصرة، بل وأيضا عن النفوذ الدولي الذي كان للعصر السوفييتي، فكل منهما عصر إمبراطوري له منطقه ومقولاته، وبالطبع سياساته واستراتيجياته.

تعود روسيا اليوم من بوابة سوريا، بعد أن دخلتها بالأمس من البوابة المصرية الأوسع، بصفقة سلاح، ثم بدعم دولي رافق العدوان الثلاثي عليها عام 1956م. تعود إلى منطقة تعرفها، وتعرف أسرارها، والمهم أنها تعرف ما تريده منها اليوم.

الولايات المتحدة، في المقابل، تبدو أقل حسما عما كانت عليه عام 1956م، البعض يفسر ذلك بطبيعة أوباما، فما إن يرحل حتى تعود أميركا التي عرفتها المنطقة طوال القرن العشرين.. قوة الانقاذ ومطرقة القمع. ولكني أتصورها مشكلة يقين حضاري، فأميركا لا تزال قوية بكل المؤشرات وحسب كل المقاييس، ولكنها لا تعي اليوم، مثلما كانت تعي بالأمس، ما الذي تريده؟

ولذا فهي تتخبط في الإقليم مع داعش وضده، مع الإسلام السياسي وضده، مع مصر وضدها.. إنها ارتباكات كبرى في التصورات الأميركية وليست مجرد مؤامرات على مصر والمنطقة كما يذهب كثيرون.

إسرائيل وحدها تبدو اليوم في أفضل حالاتها، تعيش في عزلة عظيمة، فلم ينسَ الجميع فقط ما اعتادوا تسميته بالصراع الوجودي معها، بل صاروا يحاربون لها معاركها، ويحققون لها أهدافها، وكأنها بريطانيا العصر الفيكتوري، تعيش في عزلتها العظيمة، تراقب أوروبا وصراعاتها القارية التي تصب في قوة بريطانيا العظمى وسيطرتها على البحار الدافئة.

أما العرب فيعودون إلى قديمهم، ولكن في حالة أكثر ضعفا واهتراء عما كانوا عليه. فإذا كانت سوريا الخمسينات فاعلا إقليميا قادرا على ترجيح كفة مصر أو العراق في لعبة الأمم، فإنها اليوم رجل الإقليم المريض الذي يتصارع على إرثه الجميع..

العراق من جانبه صار كيانا ممزقا، تبسط داعش قبضتها على ربع أرضه في الأقل، يستدعي النفوذ الروسي إلى أرضه، تمهيدا لانتقال تاريخي من دائرة النفوذ الأميركي إلى نقيضه الروسي، وهو انتقال يشبه ما جرى إبان حلف بغداد، ولكن في اتجاه عكسي، حيث أفضى حكم البعث إلى الانتقال من دائرة النفوذ الغربي إلى النفوذ السوفييتي.

أما مصر فلا تزال تبحث عن نفسها، عن موطئ قدم في مكان مزدحم بالفاعلين الدوليين، والمنافسين الإقليميين، بعد أن كانت اللاعب الأكثر أهمية في الاقليم. ولديها قوتها العسكرية..

وجيشها الوطني الذي يظل ركيزة تحركها في الخارج، واستقرارها في الداخل، لكن مصر اليوم بفعل ضغوط الاقتصاد ووحشية الإرهاب تبقى مكشوفة الظهر، ليست هي مصر الناصرية التي كانت تملك الحدود المعقولة من كل شيء، والتي كانت تعلم ما تريد وتصر عليه، فيسير أغلب العرب خلفها وإن لم يرضوا تماما عن اختياراتها.

السعودية، ومعها دولة الإمارات، تبقيان بجوار مصر في مواجهة الانهيارات العربية. وكلنا نعلم أهمية أن تكون مصر والسعودية بثقلهما معا، وخطورة أن تفترقا، وهنا ثمة حقيقتان:

أولاهما أن كلا من البلدين في أوضاعه الراهنة، لا يستطيع تحمل عبء قيادة المنطقة وحده، ولأن حركة التاريخ لا تنتظر أحدا، فليس أمام البلدين سوى العمل المشترك بأقصى درجات الإخلاص لإنقاذ المنطقة من إعادة توريثها. أما ثانيتهما فهي أن سوريا بالنسبة لمصر تشبه اليمن بالنسبة للسعودية.

ومن ثم فعليهما أن يتصارحا بالحقائق، وعلى البلدين أن يتفقا على عدم الخلاف بينهما، ليكون تعاونهما معا بداية حل عربي، قادر على تحييد الحضور الإيراني الفعلي في اليمن، والتصور الإيراني للمستقبل السوري.