نعود إلى كتاب إلينبرج، وما يقدمه من أمثلة في مسألة الإحصاء والرأي العام، فيشير إلى استقصاء قامت به محطة CBC الأميركية عن رأي المواطنين في كيفية معالجة العجز في الموازنة العامة..
وذلك من خلال استقصاء إحصائي، حيث عبر 77% من المشتركين في هذا الاستقصاء، بأن الوسيلة المناسبة لذلك هي ضرورة تخفيض حجم الحكومة الفيدرالية وتخفيض الإنفاق الحكومي، خاصة نفقات الرواتب والأجور، وذلك في حين أن 9% فقط من المشتركين في هذا الاستقصاء أشاروا إلى أن الوسيلة المناسبة لذلك هي زيادة الضرائب على الأغنياء.
وكان هذا في شهر يناير 2011، وفي شهر فبراير من السنة نفسها، قامت مؤسسة الإحصاء PewResearch، باستقصاء عن رأي المواطنين في تخفيض نفقات الحكومة كما وزعتها على ثلاثة عشر قطاعا، وجاءت نتيجة الاستقصاء، بأن المواطنين يطالبون بأهمية إبقاء هذه النفقات الحكومية على حالها في إثني عشر قطاعا.
فقط يمكن النظر في تخفيض النفقات في قطاع المعونات الخارجية، أي أن «الرأي العام» وافق على إبقاء 95% من النفقات الحكومية مع ضرورة إعادة النظر فقط في بند المعونات الخارجية.
وبعبارة أخري، فإن المواطن الأميركي، وفقا لهذا الإحصاء يفضل تخفيض الإنفاق الحكومي فقط عندما لا يتعلق الأمر به مباشرة، كما في حال المعونات الأجنبية، أما عندما يتعلق الأمر بالتعليم أو الأمن، أو البحث العلمي، أو توفير العدالة، أو المساهمة في العلاج الصحي.. وكل ما يمكن أن يفيد منه مباشرة فلا ينبغي المساس به.
فقط «المعونات الخارجية»، والتي يبدو للوهلة الأولى أنها لا تتعلق بالمواطن المباشرة، فمن الضروري تخفيضها.. وبطبيعة الأحوال، لو تبين المواطن العادي كيف أن المعونات الأجنبية ليست مجرد منحة للخارج، بقدر ما هي جزء من السياسة الخارجية التي تحمى المصالح الأميركية بالدرجة الأولى.
وإذا تركنا مفهوم «الرأي العام» حول مختلف القضايا المطروحة، فهل تؤدي الانتخابات دائما إلى وصول صاحب الأغلبية إلى الحكم؟ فهل يكفي أن يحصل الرئيس المنتخب دائما على أكثر الأصوات؟ أشار الكاتب إلى الانتخابات الأميركية في 1992، حيث فاز فيها كلينتون أمام بوش الأب.
فحصل كلينتون على 43% من الأصوات في حين حصل بوش على 38%، ولكن كان هناك مرشح ثالث وهو روس بيرو الذي حصل على 19% من الأصوات، ومعنى ذلك أن كلينتون حصل فعلا على أكثر الأصوات بين المتنافسين، ولكن ذلك يعنى أيضا أن 57% من الناخبين كانوا لا يريدون كلينتون رئيساً لهم ويمكن أن تتعدد الأمثلة.
والآن، وبعد هذا الاستعراض السريع لموضوع «الرأي العام»، فما هو الدرس المستفاد من هذا الشرح؟ هل المقصود هو أن «الرأي العام» لا وجود له أو لا أهمية له؟ قطعا هذا غير صحيح، «فالرأي العام» موجود ومهم، وينبغي أن نوفر له الظروف المناسبة للتعبير عن نفسه، وذلك بكل الوسائل المتاحة.إذن ما القضية؟
القضية هي أن «الرأي العام»، وعلى الرغم من أنه موجود، وأنه ينبغي احترامه وتنميته، فإننا يجب أن نعرف أيضا أن «الرأي العام» ليس «حقيقة مادية» بقدر ما هو «حقيقة إحصائية».
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، وماذا يترتب على أن «الرأي العام» هو «حقيقة إحصائية»؟ هنا ينبغي أن ندرك أن الإحصاء يتعامل مع احتمالات، وأنه يستخلص من الوقائع المتعددة والمتناثرة هذه «الحقيقة الإحصائية»، وهناك وسائل متعددة لاستخلاص هذه «الحقيقة الإحصائية».
وفي كثير من الأحيان، فإن ما نستخلصه من وسيلة إحصائية دون وسيلة أخرى، قد ينتهي بنتائج مختلفة. فإذا كانت الانتخابات هي وسيلة التعرف على «الرأي العام» السياسي..
فإن الأخذ بنظام الانتخابات الفردية والأغلبية المطلقة أو الأخذ بنظام الانتخابات بالقائمة والأغلبية النسبية، يؤدي إلى نتائج مختلفة عن هذا «الرأي العام». وبطبيعة الأحوال، فإن الاختيار بين هذين النظامين يرجع عادة إلى اعتبارات سياسية، وليس البحث عمن يعبر عن «الرأي العام» بشكل أفضل.
فالانتخاب الفردي بالأغلبية المطلقة يوفر مزيدا من الاستقرار وعدم التشتت بين العديد من الأحزاب الكبيرة والصغيرة. وعلى العكس، فإن الانتخاب بالقوائم النسبية يعطى فرصة أكبر لتعدد الأحزاب السياسية الكبيرة والصغيرة، ويسمح بالتالي للأقليات بأن يكون لها صوت مسموع في البرلمان..
ولكنه وبالمقابل كثيرا ما يؤدي إلى صعوبة اتخاذ القرارات السياسية والاضطرار إلى قبول حلول توفيقية لإرضاء الجميع مع ما قد يترتب عليه من ميوعة في تنفيذ معظم السياسات.
وإذا كان هذا هو «الرأي العام»، باعتباره «حقيقة إحصائية»، فإن الرأي الشخصي أمر مختلف، فهو يمثل حقيقة موضوعية وليست متوسطا إحصائيا أو رأى «عينة» من الأفراد..
وهكذا، فإننا عندما ننتقل من مجال «الرأي الشخصي» إلى مجال «الرأي العام»، فإننا ننتقل من مجال الحقائق الموضوعية إلى مجال الحقائق الإحصائية. وهذه أمور يدرسها علم الإحصاء، وهى تعتمد على تحليل شكل العينة أو نوع المتوسط الإحصائي المستخدم. فالرأي العام هو «حقيقة إحصائية».
وهذا لا ينقص أبدا من سلامتها أو ولائها. ويكفي أن نتذكر، أن أهم مظاهر العلم الحديث والمعروفة «بفيزياء الكم» Quantum تستند إلى قوانين إحصائية. فالقوانين الإحصائية تلعب دوراً رئيسياً في قوانين الطبيعة كما في العلاقات الإنسانية والاجتماعية.
وهكذا، فالتأكيد على أن «الرأي العام» هو أحد «الحقائق الإحصائية»، لا يقلل إطلاقا من شأنها، وإن كان علينا أن ندرك أن هذه «الحقائق الإحصائية» تتوقف إلى حد بعيد على أسلوب اختيار المتوسطات الإحصائية وشكل العينة المختارة.