لو كانت هناك مراكز استطلاعٍ موثوقة، قادرة على الوصول لعموم البلدان العربية، لتبيّن مدى الشعور بالقرف والاشمئزاز لدى معظم الجماهير العربية ممّا يحدث الآن في المنطقة العربية.
فالأمل العربي بالتغيير نحو الأفضل كان كبيراً منذ خمس سنوات بعد ثورتي تونس ومصر، ثم تحوّل هذا الأمل شيئاً فشيئاً إلى كابوس، حتّى البلدان التي شهدت تغييراتٍ سلمية في حكّامها، تخاف اليوم على استقرار ووحدة ومستقبل هذه الأوطان.
صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية العربية في العام 2011 قد كسرت جدار الخوف السميك الذي أقيم في جناحي الأمَّة بالمشرق والمغرب، لكن يبدو أنّ هذا الجدار كان على طرف هاوية بحيث إنّ إسقاطه من قبل الشعوب كان مدخلاً بعد ذلك إلى السقوط بالهاوية. استخدام العنف المسلح في مواجهة اعتداءٍ خارجي، أو من أجل تحرير أرضٍ محتلة..
لكن لا يجوز ولا ينفع هذا الأسلوب بتحقيق تغيير سياسي في الحكم. إذ ما الفارق بين الانقلابات العسكرية وبين من ينقلبون عليها بفعل عنفٍ مسلّح مدعومٍ عسكرياً من الخارج؟!.
أيضاً، فإنّ عسكرة الانتفاضات الشعبية العربية، واستخدام العنف المسلّح، من قبل بعض جماعات المعارضة في سوريا وليبيا، جعل البلدين ساحةً مفتوحة لتنظيماتٍ إرهابية تسيطر الآن على مساحاتٍ واسعة من الأراضي، كما أعطى ذلك الأعذار لأشكال مختلفة من التدخّل العسكري الأجنبي بحجّة الحرب على الإرهاب!.
لقد تعرّضت أممٌ كثيرة خلال العقود الماضية إلى شيء من الأزمات التي تواجه العرب الآن، كقضايا سوء الحكم وما فيه من استبدادٍ وفساد، وما ينتج عن ذلك من مشاكل التخلّف الاجتماعي والاقتصادي وغياب للحريات العامة، أو أيضاً ما واجهته بعض الأمم من مشكلة الاحتلال الأجنبي والتدخّل الأجنبي، أو مسألة التجزئة السياسية بين أوطان الأمّة أو الحروب الأهلية في بعض أرجائها..
لكن من الصعب أن نجد أمّةً معاصرة امتزجت فيها بآنٍ واحد كلّ هذه التحدّيات، كما هو حاصلٌ الآن على امتداد الأرض العربية. فخليط الأزمات يؤدّي إلى تيهٍ في الأولويات، وإلى تشتّت القوى والجهود، وإلى صراع الإرادات المحلية تبعاً للتحالفات الإقليمية والدولية، أو بسبب طبيعة الخطر المباشر، الذي قد يكون ثانوياً لطرفٍ من أرجاء الأمّة بينما هو الهمّ الشاغل للطرف الآخر.
وليست صدفةً سياسية أن تتزامن كلّ تلك التحدّيات على الأمّة العربية مع ارتفاع التعبئة الطائفية والمذهبية والإثنية في غالبية البلاد العربية!! ففي غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة داخل البلاد العربية، على مستوى الحكومات والمعارضات..
وفي غياب المرجعية العربية الفاعلة، أضحت المنطقة العربية مفتوحةً ومشرّعة ليس فقط أمام التدخّل الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية التي تجعل المنطقة كلّها تسبح في الفلك الإسرائيلي.
اليوم، نجد دعوات عربية لتصعيد العنف المسلّح داخل أوطان عربية، ومناشداتٍ للأجانب من أجل التدخّل العسكري في هذه الأزمات العربية الداخلية..
بينما هناك تمسّك عربي بنهج أسلوب التفاوض مع إسرائيل وبإسقاط خيار الحرب أو المقاومة المسلحة ضدّها، وهي العدوّ الذي احتلّ الأرض وشرّد الملايين وقتل وجرح عشرات الألوف على مدار أكثر من ستين عاماً، فلا ضرورة الآن حتّى لقطع العلاقات مع هذا العدوّ رغم استمرار احتلاله وتهويده المتصاعد للقدس وللأراضي المحتلة!!.
تُرى لِمَ لا يتّم التوافق عربياً على حالةٍ شبيهة بما جرى الاتفاق عليه في العام 1993 بين «منظمّة التحرير الفلسطينية» وإسرائيل، وبإشراف أميركي وأوروبي، بأنّ «التفاوض هو الأسلوب الوحيد لحلّ النزاعات» وبأن «لا لاستخدام العنف المسلّح». وقد جرى عملياً تبنّي هاتين المسألتين من قبل الحكومات العربية كلّها في رؤيتها للصراع مع إسرائيل؟!.
فحيث تتوجّب المقاومة المسلّحة ضدّ عدوٍّ إسرائيليٍّ ظالمٍ محتل، يتمّ تبني خيار التفاوض والتخلّي عن أسلوب الكفاح المسلّح. وحيث يجب إسقاط أسلوب العنف المسلّح بين أبناء الوطن الواحد ودعوتهم للحوار الوطني الجاد، يحصل الآن التشجيع الخارجي على إشعال حروبٍ أهلية عربية.
وحيث يجب التعامل مع الملف الفلسطيني في «مجلس الأمن الدولي» يتمّ إخراج الملف منه، رغم أنّه بالأساس من مسؤولية الأمم المتحدة بعد اعترافها بدولة إسرائيل والتسبّب في تشريد الفلسطينيين من وطنهم. وحيث لا ينفع وطنياً ولا عربياً تدويل الأزمات الداخلية لأيِّ بلدٍ عربي، تندفع قضايا عربية إلى مرجعية «مجلس الأمن»!!.
قد يسير بعض بلدان هذه الأمَّة نحو الأسوأ والأعظم من الصراعات، وقد تتهدّد وحدة أوطان وكيانات، وقد تستفيد القوى الأجنبية الدولية والإقليمية من تصدّع العرب شعبياً، وتداعيات أوضاعهم سياسياً وأمنياً، وانعدام تضامن شعوبهم وحكوماتهم، لكنَّ ذلك سيؤكّد من جديد مخاطر النهج الذي تسير عليه هذه الأمَّة، على مستوى معظم حكوماتها وشعوبها و«حكمائها» وحركاتها السياسية. وما لم يتم تصحيح هذا النهج فسيأتي يومٌ لن ينفع فيه حتّى الندم!.