تقديري أن هذه هي الأركان الثلاثة الأساسية لأي دولة أياً كان نظامها السياسي. وإذا قويت هذه الأركان الثلاثة قويت الدولة، وإذا ضعفت أو ضعف ركن منها فإن الدولة يصيبها الضعف بقدر ما أصاب هذه الأركان أو أصاب ركناً منها.

وسأحاول أن أتحدث بإيجاز عن كل ركن من هذه الأركان لأن الحديث عنها باستفاضة يستلزم مجلدات، ولا يكفي فيه مقال واحد، ولكن كما يقال عادة ما لا يدرك كله لا يترك كله.

وعادة أتذكر الجنرال ديجول – ومن الواضح أنه كان «جنرالاً»، أي من القوات المسلحة الفرنسية، ولم يذكر أحد أبداً في تاريخ فرنسا أن فترة ديجول كانت انقلاباً على الديمقراطية أو أنها كانت تحت حكم العسكر، كما يقول بعض الذين لا يحبون الخير لهذا البلد – على أي حال ليس هذا هو ما أقصد إليه هنا..

ولكن ما أقصده هو الإشارة إلى حديث جرى بين الجنرال ديجول والكاتب الفرنسي الكبير اندريه مالرو عندما عاد ديجول إلى فرنسا بعد تحريرها من الحكم النازي في نهاية الحرب العالمية الثانية.

سأل ديجول مالرو قائلاً: أنا أعلم أن الحكم النازي دمر كل شيء في فرنسا ولكني أسألك كيف حال الجامعة وحال القضاء فرد عليه مالرو قائلاً بالفرنسية ما معناه أن حال الجامعة وحال القضاء لا بأس به نوعاً، فقال ديجول إذا كان الأمر كذلك نستطيع أن نعيد بناء فرنسا.

وهذا الحديث يدل على مدى أهمية التعليم بصفة عامة كذلك مدى أهمية القانون أو مدى أهمية سيادة القانون.

وعلينا أن نواجه أنفسنا بصراحة، ونسأل عن أوضاع هذه الأركان الثلاثة في في مصر، وفي بلدان وطننا العربي أيضاً في الوقت الراهن.

وسنتناول كل ركن باختصار.

أما التعليم من الإلزامي والفني والثانوي والجامعي فأظن أن الكل يدرك أن حاله لا يسر ولا يرضى. وأنا أعلم أن هناك محاولات جرت للإصلاح منذ وقت طويل، ولكن الذين عاصروا المدارس الابتدائية والثانوية في القرن الماضي يدركون مدى الهوة الواسعة بين ما كان وما صار إليه الحال على حين أن الأمر كان يجب أن يكون العكس. إن الأمم تتقدم ولا تتأخر.

كان الفصل الدراسي في الابتدائي والثانوي لا يزيد على ثلاثين تلميذاً، وقد بلغ الفصل الآن في بعض المدارس إلى أكثر من مئة تلميذ.

كانت المدرسة بالنسبة لنا حياة كاملة، فهل تقارن مدارس اليوم بمدارسنا منذ ستين أو سبعين سنة.

أما الجامعة وبالذات جامعة القاهرة فقد كانت بحق الجامعة الأم لأبناء الوطن العربي كله. ورغم كثرة الأعداد في كلية الحقوق عن غيرها من الكليات الأخرى فقد كانت الدفعة لا تتجاوز خمسمئة طالب، أي أن عدد طلاب الكلية في الأربع سنوات كان يدور حول ألفي طالب. هل يصدق أحد أن كلية الحقوق بجامعة القاهرة الآن تقارب المئة ألف طالب وقد تزيد.

أين جامعاتنا من هذا الوضع النموذجي؟

أما الإدارة وهي التي تحمل على أكتافها عبء العمل في كل مرافق الدولة فأظن أن حاجة الإدارة الوسطى إلى التدريب والتطوير لا تخفى على أحد، وقد تكلمت في ذلك كثيراً ولا أريد أن أكرر نفسي.

يبقى الركن الثالث وهو القضاء.

والقضاء يعني العدل، ويعني حكم القانون، ويعني الفصل في المنازعات، ويعني إحساس الناس بالمساواة الحقيقية أمام القاعدة القانونية، ويعني دولة المواطنة، ودولة تداول السلطة.

وتقديري أن القضاء – من بين الأركان الثلاثة – قد يكون رغم ما هناك من بطء شديد في الفصل في المنازعات، أفضل هذه الأركان الثلاثة، وأحب أن أقول هنا: إنني أسمح لنفسي بأن أفرق بين القضاء في مستوياته الدنيا والقضاء في مستوياته العليا – محاكم الاستئناف ومحكمة النقض والمحكمة الدستورية العليا – وكذلك الحال في القضاء الإداري – المستويات الأدنى فيها قدر من الضعف لا بد من تداركه بزيادة عدد القضاة وبإنشاء معهد للدراسات القضائية لمدة سنتين لا يعين أحد في وظيفة قضائية قبل أن يمرّ عليه.

إن الأمر يستحق التأمل والمراجعة، وأنا أقول هذا الكلام ونحن على أبواب مرحلة جديدة في تطور حياتنا الدستورية. مرحلة سيواجه من يحكمون فيها بمشاكل متراكمة منذ أكثر من مئة عام والناس تريد أن تحل المشاكل كلها في يوم واحد أو في عام واحد على حين أن الأمر ليس بهذه السهولة.

كل مواطن في الأمة العربية مطالب بأن يعيد النظر، وأن يكون أميناً مع نفسه، ومع بلده وأمته.

وسيحفظ الله الأمة العربية، إن شاء الله.