لم تكن واشنطن في السابق مستعجلةً جداً على فرض تسوية سياسية للأحداث الدامية في سوريا، لكنّها حرصت على ضبط الصراع ..
وعلى عدم انتشاره إقليمياً أو دولياً، فكانت الإدارة الأميركية تُشجّع الآخرين على تسليح بعض قوى المعارضة، دون تورّطٍ عسكريٍّ أميركيٍّ مباشر على الأرض، ولا تُشجّع في الوقت ذاته على حلول سياسية وأمنية لم يحن أوانها بعدُ أميركياً، كالذي حصل مع المبادرة العربية في خريف العام 2011..
حينما دعت علناً وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون أطراف المعارضة السورية المسلّحة إلى عدم ترك السلاح أو تسليمه، خلافاً لما تضمّنته المبادرة العربية حينها، ثمّ كما حدث من فشلٍ فيما بعد مع المبعوثين الدوليين كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي.
فقد استفادت واشنطن من تداعيات الأزمة السورية، في بداية سنواتها الأولى، لجهة إضعاف دولةٍ كانت تقف مع خصم الولايات المتحدة في المنطقة آنذاك، إيران، وتُشكّل ثقلاً مهمّاً، سياسياً وعسكرياً، لروسيا في المشرق العربي والبحر المتوسط.
لكن أيضاً، لا يمكن تجاهل حقيقة أنّ درجة العنف الآن في الأوضاع السورية هي انعكاسٌ لصراعات إقليمية كبيرة ولعدّة أزماتٍ أخرى، مترابطة كلّها بعناصرها وبنتائجها وبالقوى الفاعلة فيها. فهل يمكن فصل الأزمة السورية عمّا حدث في العقد الماضي من أوّل احتلالٍ أميركي لبلدٍ عربي (العراق)، حيث كانت سوريا معنيّةً بأشكال مختلفة بتداعيات هذا الاحتلال ثمّ بدعم مواجهته؟
وهل يمكن نسيان أنّ «القاعدة»، وهي الأم التي وُلِدت من رحمها جماعات «النصرة» و«داعش»، قد ظهرت في العراق ثمّ في سوريا كمحصّلة لنتائج الاحتلال الأميركي لبغداد؟ وهل يمكن فصل الأزمة السورية الحالية عن الصراع العربي/الإسرائيلي وعن مأزق التسوية على المسار الفلسطيني، حيث كانت دمشق داعمةً للقوى الفلسطينية الرافضة لنهج «أوسلو» وإفرازاته السياسية والأمنية؟
ثمّ كانت دمشق غير موقّعة على معاهداتٍ مع إسرائيل، فبقيت سوريا في حال الاستهداف من أجل فرض «التطبيع العربي» مع إسرائيل، بغضّ النظر عن مصير القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني؟!.
وهل يمكن نسيان أنّ مئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين يقيمون في لبنان وسوريا والعراق، وبأنّ ما حدث، وما يحدث، في هذه البلدان سيؤثّر كثيراً على مصير ملفّ اللاجئين الفلسطينيين؟!. ثمّ هل حقّاً أنّ التغيير المنشود في سوريا هو في نظامها السياسي الداخلي فقط؟!.
يبدو الآن أنّ الظروف قد تغيّرت، وأنّ معالجة الأزمة السورية أصبحت أولويّةً لدى إدارة أوباما في سنتها الأخيرة بالبيت الأبيض، خاصّةً بعد تصاعد خطر «داعش»، دولياً وإقليمياً، وسيطرتها على مساحاتٍ واسعة من سوريا والعراق.
وبعد حدوث الاتفاق الدولي مع إيران التي هي أيضاً دولةٌ معنيّة بما تخطّط له واشنطن لمستقبل أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان واليمن وملفّ فلسطين والصراع العربي/الإسرائيلي. لذلك نجد الآن هذا التفاهم والتوافق الروسي/الأميركي على ضرورة تحقيق تسوية سياسية للأزمة السورية، رغم استمرار الاختلاف بين القطبين الدوليين حول تفاصيل التسوية المرتقبة ونسبة مردود المصالح منها لكلّ طرف.
فأميركا تحتاج إلى دعم موسكو في الملفّ السوري كما احتاجته في الملفّ النووي الإيراني، رغم الخلاف الكبير المستمر بين الغرب وروسيا حول المسألة الأوكرانية والأمن في أوروبا.
فليس أمام واشنطن الآن بدائل مفيدة للمصالح الأميركية في حال فشل مشروع التسوية السياسية للأزمة السورية. أي هل سيكون الخيار البديل هو مزيدٌ من التصعيد العسكري في سوريا، الذي قد تحصد موسكو نتائجه عسكرياً وسياسياً، أو قد تستفيد منه «داعش» لتمتدّ شرارات نيران الإرهاب والحروب الأهلية إلى باقي دول المنطقة، مع احتمالات حدوث حروبٍ إقليمية؟.
وهل لواشنطن وموسكو والقوى الإقليمية الكبرى مصلحة في هذه الحروب وفي تعاظم خطر الإرهاب الداعشي على العالم كلّه؟ أم سيكون الاحتمال، في حال الفشل بتحقيق تسوية سياسية للأزمة السورية، هو استمرارها وأزمات المنطقة على ما هي عليه؟، لكن من يقدر الآن على ضبط إيقاعاتها المحلية ومنع توسيع رقعتها الجغرافية؟ وهل هناك إمكانية لفعل ذلك؟! لا أعتقد أنّ هذا ممكن..
ولا أرى أنّ هناك مصلحة فعلية لأيٍّ من القوى الكبرى في استمرار التأزّم الأمني والسياسي الحاصل. إسرائيل وحدها هي المستفيدة الآن من الحروب الأهلية العربية، ومن التجاهل الدولي والعربي الجاري الآن للقضية الفلسطينية. وإسرائيل فقط، ومن معها في الأوساط السياسية الأميركية، هي التي ترغب بتغيير خرائط المنطقة وتفتيت كياناتها الراهنة.
لذلك كلّه، تتزايد الضغوط الآن لتحقيق تسوية سياسية للحرب الدموية في سوريا رغم تباين مصالح الأطراف الإقليمية والدولية المتورّطة فيها، وهو ما جعل موسكو وواشنطن تنسّقان معاً منذ أواخر العام الماضي من أجل التوصّل إلى حلٍّ سياسي للأزمة السورية، كانت أسسه في بيانات فيينا ثمّ في قرار مجلس الأمن 2254 ثمّ في بيان ميونيخ.
وتأكّد هذا التنسيق الأميركي الروسي مؤخّراً من خلال الاتفاق الأخير حول «وقف الأعمال العدائية» في سوريا، والذي سيمهّد الطريق أمام عودة المفاوضات السورية في جنيف وتنفيذ بنود قرار مجلس الأمن.