ربما تشكل العلاقات السعودية الفرنسية واحدة من أفضل العلاقات على مستوى أوروبا، وانتقلت صيغة العلاقة من التعاون إلى الشراكة، وأصبح هناك توافق سعودي فرنسي على ملفات المنطقة برؤية واحدة، وهذا ربما يبرر الزيارات عالية المستوى بين البلدين وتوقيع اتفاقيات وتعاون عسكري واقتصادي متنامٍ، وتأتي زيارة الأمير محمد بن نايف ولي العهد ووزير الداخلية تجسيداً لتطور نوعي في العلاقة بين البلدين، خاصة أنها تأتي بعد اجتماع اللجنة المشتركة بين البلدين التي عقدت اجتماعها الثاني في الرياض بحضور أكثر من ألف وخمسمائة رجل أعمال سعودي وفرنسي.
وإذا كانت الرياض وباريس تملكان رؤية متطابقة في كثير من ملفات المنطقة فإن التغيرات التي حصلت الفترة الأخيرة تستوجب تفاهماً على مواجهة تطورات متلاحقة، فالموقف السعودي الفرنسي هو إنشاء حكومة جديدة في سوريا لا مستقبل فيها لبشار الأسد، وفرنسا نفسها أخذت مواقف قوية للتضامن مع الثورة السورية ووقف نزيف الدم والحرب الشعواء التي يقودها النظام السوري ضد شعبه، لكن التدخل الروسي الإيراني في الداخل السوري أصبح يفرض واقعاً جديداً يضاف له تراجع الدور الأميركي بشكل غير مسبوق يتطلب وجود محاور قوية إقليمية ودولية تستطيع أن تؤثر بشكل إيجابي في هذه الأزمة، وهناك شعور بين المراقبين بأن الجهود السياسية، واتفاقية وقف إطلاق النار الأخيرة تمثل محاولات الربع الساعة الأخيرة وأنه في حالة تعثرها فإن الوضع مرشح لمسلسل بشع وطويل من الحرب الداخلية.
والسعودية وهي تلعب دوراً قيادياً في المنطقة وتسعى مع دولة الإمارات وبقية شقيقاتها في دول الخليج لملء الفراغ في النظام العربي ترى في فرنسا شريكاً استراتيجياً يمثل مركز ثقل في المجموعة الأوروبية، وهذا يساعد في مشروع حل أزمات المنطقة وتعزيز الأمن والاستقرار، ولم يكن اختيار الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ضيفاً استثنائياً على قمة مجلس التعاون الخليجي التي عقدت في الرياض إلا رسالة واضحة بأن الخليجيين ينظرون إلى فرنسا كشريك ليس فقط اقتصادياً بل سياسياً وأمنياً.
والسعودية تؤكد في علاقاتها المنفتحة على الجميع أن القضية بالنسبة لها ليست استبدال حليف بآخر، وذلك في تعليقات بعض المحللين الذين يرون أن التقارب السعودي الفرنسي هو بديل بعد اليأس السعودي من المواقف المترددة الأميركية، بل تأتي الإشارات الواضحة من الرياض أن علاقاتها مع واشنطن استراتيجية وقوية ولكن هذا لا يمنع وجود علاقات وشراكات ومصالح مع دول مهمة سواء في أوروبا أو في الاتجاه شرقاً مع دول أخرى، ولهذا تنشط الدبلوماسية السعودية في عواصم العالم وأصبحت الرياض مركزاً مهماً لزيارات زعماء والمسؤولين في دول العالم، وتعزز السعودية علاقاتها المبنية على مصالح تخدم شعوب البلدين وتؤثر إيجاباً لمصلحة التقارب السياسي.
وفرنسا التي تضررت من الحوادث الإرهابية التي وقعت على أراضيها ترى في الشريك السعودي مسانداً وشريكاً يمتلك خبرة في مواجهة خلايا الإرهاب، والنجاح الأمني السعودي سواء في مواجهة العمليات الإرهابية أو في إحباطها قبل الشروع في تنفيذها يجعل للرياض مكانة خاصة عالمياً في تجربتها الأمنية، وهي التي يحسب لها في عملها الأمني والاستخباراتي النجاح في رصد عمليات إرهابية داخل أوروبا واستطاعت بالتعاون مع الجهات الأمنية في هذه الدول في إفشال هذه العمليات. والأمير محمد بن نايف والذي يحظى باحترام دولي وإعجاب بقيادته للملف الأمني في مواجهة الإرهاب، يؤكد أن الإرهاب ليس تهديداً محلياً لدولة بذاتها بل تهديد للأمن والسلام والاستقرار في العالم، ومواجهة هذا الإرهاب مسؤولية دولية تشترك فيها جميع الدول.
والسعودية تبنت مواقف مهمة من أجل ضمان الحد الأدنى من الأمن الإقليمي العربي، ولذلك كانت عاصفة الحزم التي حمت العالم العربي وليس السعودية ودول الخليج من سقوط دولة عربية في الفلك الإيراني. وفرنسا تقف مع السعودية تماماً كما هو موقف أعضاء مجلس الأمن الذين اتخذوا قرار ٢٢١٦ من أجل دعم الشرعية في اليمن ومواجهة عصابات الحوثي التي حاولت اختطاف دولة بكاملها، وتدرك باريس أن السعودية حالياً وفي الأوضاع الصعبة التي تعيشها المنطقة أصبحت محوراً رئيساً لإعادة الأمن وقيادة مشروع التطوير والنمو في المنطقة.
وفي الجانب اللبناني تتفق الرياض وباريس على أن نشاطات ما يسمى بحزب الله كانت السبب في تأزيم الوضع الداخلي في لبنان، وأن القرار السعودي في إيقاف الدعم للجيش وقوى الأمن اللبناني إشارة إلى أن السعودية غاضبة من هذا الوضع وأنها كانت تتوقع من لبنان الدولة أن يتخذ مواقف تفرضها عليه مصلحة شعبه، بدلاً من أي يسلم القرار السياسي لديه إلى جهات تنفذ أجندات خارجية ولا تفكر في مصلحة لبنان، وتتعامل باريس مع الملف اللبناني باهتمام وتنظر إلى الرياض على أنه شريك أساسي في حل الملف، ودفعه بعيداً عن التأزيم الدخلي والمشكلات الإقليمية في المنطقة.
العلاقات السعودية الفرنسية تتميز بتعدد ملفاتها وكانت زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي قد فتحت المجال لتعاون اقتصادي وعسكري غير مسبوق بين البلدين تترجم إلى تشكيل اللجنة المشتركة التي تقود مشروع هذه العلاقة وتحويلها إلى عمل مؤسساتي يربط بين مصالح وشعوب البلدين. والآن تأتي زيارة الأمير محمد بن نايف لتؤكد أن هذه الزيارات المتبادلة بين قادة البلدين تضع تصوراً لمنهج متكامل وشراكة متبادلة بين بلدين مهمين وليس مجرد علاقات ثنائية تقليدية.