ثقافات الشعوب تعكسها عناوين الصحف. فالإعلام قد يكون مرآة المجتمع وربما يصبح وسيلة لتهميش المجتمع. ولرؤية واقع الاختلاف والتأثير حاول أن تقارن بين عناوين الصحف الأجنبية والعربية وسترى أن النتائج تثبت أننا شعوب أمامها مسافة طويلة لتحقيق تطور نوعي في الفكر المجتمعي، وأننا نفكر بصوت الواحد بينما في الدول المتقدمة يحاربون من أجل أن يسمعوا صوت الآخر.

ومن متابعتي لبعض الصحف الغربية في الأيام السابقة، وجدت أن صحيفة خصصت صفحتها الأولى عن موضوع علمي لعلاج الجنين المريض وإبقائه في بطن الأم حتى يستخدموه في الخلايا الجذعية، بينما كانت هناك صحيفة تتحدث عن اكتشاف لفريق علمي في إيجاد علاج للسرطان، وتتنوع المواضيع فخبر طرح لوحة مهمة في مزاد يأخذ مكانه في العناوين الرئيسة في الصفحة الأولى أو كتاب مثير للجدل. القضية هنا اهتمامات الناس وتنوعها.

الإعلام هناك ينزل للناس ولكن يصعد بهم إلى مرحلة أعلى، يثقف ويناقش ويسمح بالاختلاف، والمحاسبة هنا قوية ليست من السلطة السياسية، بل من الجمهور الذي يقاطع الصحيفة ويعرضها لخطر الإفلاس إذا وجدها غير جديرة بالمتابعة.

المجتمع الحيوي يمارس سلطة كبيرة دون أن يدري على الإعلام، وهي قوته في قرار الشراء أو المتابعة، والمعلن هنا أيضاً يهتم بتوجهات الجمهور ويتخذ قراراً بسحب إعلاناته نتيجة شعوره بردة فعل سلبية من الجمهور تجاه مؤسسة إعلامية معينة.

الصحافة الغربية أو نشرات الأخبار في التلفزيونات ليس همها الأول بالضرورة سياسياً، بل هي تتكيف دائماً مع اهتمامات الناس، وتحرص على صنع قصة الصفحة الأولى كقصة استقصائية خاصة، ولذلك من النادر أن تجد عناوين الصحف الغربية متشابهة، ماعدا إذا كانت هناك أحداث كبيرة مهمة .

فمن الطبيعي أن تكون هي القصة الأهم على الصفحة الأولى ولكن أيضاً طريقة المعالجة تختلف من صحيفة إلى أخرى، بل الصحف تعتبرها فرصة لإظهار مهارات فريقها التحريري وقدراتها في عمل تغطية استثنائية.

المجتمعات المتقدمة هي التي تمتاز بالتنوع في اهتمامات الناس، ولكل نشاط تجد له جمهوراً ومتابعين ولذلك تطورت لديهم صحافة التخصص، وتوسع هذا المجال إلى درجة التخصص داخل التخصص نفسه، وأتذكر خلال عملي كصحفي زائر في جريدة الفانيشال تايمز البريطانية في لندن استغربت وجود صحفي متخصص في الصناعات البتروكيماوية وآخر متخصص في صناعة السيارات وزميل له في الصناعات الزراعية .

وكنت أعتقد أن صحفياً متخصصاً في الصناعة سيفي بالغرض في جريدة اقتصادية لكنهم يرفعون مستوى الصحفي من خلال التخصص وبالتالي المادة التحريرية تكون مميزة حتى للجمهور المتخصص في هذا المجال، وهو استثمار ضخم ولكنه يصنع عائد الربحية.

المجتمعات العربية تقليدية التفكير، والصحافة تعكس هذا المستوى التفكيري، فكثيرون يستطيعون توقع عناوين الصفحات الأولى للصحف في اليوم التالي، وهي مأخوذة في الدرجة الأولى بالشأن السياسي، وكأن المجتمعات العربية تفكيرها واهتمامها فقط في السياسة، أو كأنهم يشاركون في صنع القرار السياسي، والمواضيع في معظمها تولد الإحباط واليأس، ومن مشاكل وحوادث وخلافات وهذا يحقن المواطن العربي دون أن يشعر بطاقة سلبية تجعله يفقد الأمل في واقعه أو في مستقبله.

الإعلام الذي ينزل إلى الناس ولكنه ينزل بهم إلى درجة أقل يعاني من إشكالية، ومن الخطأ الاعتقاد أن هذا الوضع طبيعي نظراً لطبيعة الأحداث، إعطاء مساحة للإبداع والابتكار والاكتشافات العلمية والفعاليات الاجتماعية وتشجيع وإبراز المبدعين في مجالات مختلفة مسؤولية مفصلية للإعلام.

وليس بالضرورة التمسك بشماعة الجملة الشهيرة (الجمهور عاوز كده). هذا تبرير يفقد قيمته. المجتمعات تتطور والجمهور حينما يفقد ثقته في الوسائل الإعلامية التقليدية يتجه إلى بدائل خاصة في ظل تطور صناعة تكنولوجيا الاتصالات.

الإعلام بدلاً من أن يصنع نجوماً ونماذج إيجابية، يتحول في دائرة نفس مشاهير الفن والرياضة وبالأصح كرة القدم فقط، وكأن هذه المجتمعات عاجزة عن صنع حراك متعدد الاهتمامات والنشاطات، والقضية ليست إلقاء اللوم على مَن، ولكن هذا واقع نعيشه وأصبحنا نراه طبيعياً لأنه متكرر، لكن تكرار الخطأ لا يعنى صحته.

اختصار مشكلة الإعلام في الوسيط افتراض يفتقد الدقة، الإشكالية الحقيقية في المحتوى، وهذا الذي يصنع الفرق، التحديات التي تواجه الإعلام كثيرة والواقع نفسه صعب، لكن هذا يجب ألا يقودنا إلى نقاش بيزنطي الدجاجة قبل أم البيضة، أي المجتمع أم الإعلام، فصناعة التأثير هي الأساس، والإعلام يستطيع أن يلعب دوراً في إثراء التنوع والاختلاف، وهذا بدوره هو الذي يمهد الطريق لبناء مجتمعات صحية قادرة أن تكون منافسة في مضمار التنافس الكوني.