اليابان هي واحدة من أكبر الدول الرأسمالية المتقدمة، يُشار إليها باعتبارها عملاقاً اقتصادياً وهي رابع أقوى اقتصاد على مستوى العالم رغم ندرة مواردها الطبيعية، تكتسح منتجاتها الأسواق العالمية وتشتهر بجودتها العالية.

فهي المنافس الحقيقي من هذه الزاوية لمثيلاتها الأميركية والأوروبية، تحقق نسبة نمو مرتفعة ودخل الفرد فيها هو أيضاً من أعلى النسب، حجم البطالة ضئيل وكذلك الأمية (1%) بسبب الطفرة الهائلة في التعليم الحديث، وعلى مستوى النظام والخدمات العامة التي تقدمها لمواطنيها فقد لا تضاهيها دول كبيرة أخرى.

ونفس الإنجاز ينطبق على الجانب السياسي، تأخذ بالديمقراطية البرلمانية وموقع الإمبراطور شرفياً.

البعض يُطلق على تجربتها مصطلح «المعجزة»، ولكنها ليست كذلك، فالمعجزة تستند على أسس غيبية، أما ما حدث في هذه التجربة المبهرة فيقوم على جهد وإبداع بشري وإصرار على النجاح بل التفوق ومواجهة التحديات مهما كانت صعبة أو مؤلمة.

مناسبة الحديث عن اليابان، هي الزيارة الناجحة التي قام بها إليها أخيراً الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في إطار السياسة الخارجية النشطة التي اعتمدها منذ توليه القيادة. ولأن جانباً آخر من الموضوع يتعلق بهذا البلد كـ«نموذج» فيستحق التوقف عنده أيضاً.

منذ ما يقرب من العقود السبعة كانت اليابان على النقيض مما هي عليه الآن، نعود فيها الى أشهر موقعة غيّرت مجرى التاريخ إبان الحرب العالمية الثانية وكان بطلاها هما الولايات المتحدة واليابان، وهي موقعة بيرل هاربور.

والحكاية بدأت في العصر الامبراطوري مع السعي الياباني من خلال الحملات العسكرية للتوسع والسيطرة على أجزاء كبيرة من محيطها الإقليمي (شرق وجنوب آسيا والصين وكوريا) وكان الأسطول الأميركي متمركزاً في المحيط الهادئ في قاعدته البحرية بميناء بيرل هاربر بجزر هاواي، الذي قصفته القوات اليابانية في غارة مفاجئة مُحدثة صدمة وخسائر مروعة.

وكان ذلك في ديسمبر 1941 في بدايات الحرب، المهم أن هذا الحدث تحديداً كان السبب المباشر في دخول أميركا الحرب العالمية في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت بعدما كانت تقريباً على الحياد وكانت مقولته الشهيرة «الشيء الوحيد الذي يجب أن نخاف منه هو الخوف نفسه» أبلغ تعبير عن هذا التغيير.

وانتهى الأمر بعد سنوات بإلقائها أول قنبلتين نوويتين في التاريخ على مدينتي هيروشيما وناجازاكي (6 و9 أغسطس1945) قتلتا ما يزيد على مئتي ألف شخص ناهيك عن آثارهما المدمرة التي استمرت على المدى الطويل، وفوق ذلك دُمرت أغلب مدن اليابان إلى أن أعلنت استسلامها غير المشروط بعد ذلك بأيام قليلة زامنت انتهاء الحرب.

وتم احتلالها من قبل «الحلفاء» بقيادة الولايات المتحدة وعُين عليها حاكم عسكري (جنرال ماكارثر) في عهد الرئيس هاري ترومان (حتى استقلالها في 1952) والذي في ظله وُضع دستورها المعمول به إلى الآن، وكان من أخطر وأهم بنوده ما تعلق بالجانب العسكري (المادة 9 بند السلام).

حيث حُظر عليها إعلان حالة الحرب كحق سيادي للدولة أو استخدام القوة أو مجرد التهديد بها لتسوية النزاعات الدولية أو إرسال جيشها للخارج للمشاركة في أي عمل عسكري، ولم يُسمح لها إلا بجيش دفاعي بمساعدة أميركا التي تحتفظ بقاعدة عسكرية وعدد كبير من جنودها هناك، وفي الآونة الأخيرة أُثير جدل حول تخفيف تلك القيود، إلا أن رئيس وزرائها عاد ليؤكد أن أي تغيير محتمل لن يمس المبدأ.

باختصار، لم يكن هناك أسوأ مما تعرضت له اليابان، وغيرها من الدول لحظة خروجها من الحرب، بل إن أوروبا كلها التي دارت المعارك على أراضيها تعرضت لنفس الدمار، المهزوم منها والمنتصر، حتى ان الخسائر البشرية من العسكريين والمدنيين قُدرت بالملايين (85 مليوناً وفق بعض المصادر).

هذه الدول في وقتنا الراهن هي في قمة النهضة والتقدم من كافة الجوانب، والمدهش أن أعداء الأمس باتوا أصدقاء وحلفاء اليوم، فليس أكثر من التحالف الوثيق بين أميركا واليابان وشراكتهما الاقتصادية والتجارية، لدرجة أن أهم الأفلام التي عظمت من القيم اليابانية القديمة للساموراي (وهي طبقة المحاربين القدامي) كانت من إنتاج أميركي (2003)، وهو فيلم «الساموراي الأخير» الذي لعب بطولته الممثل الأميركي الشهير توم كروز، ويُعد من علامات السينما العالمية.

ليس هذا بالطبع مجرد استعراض تاريخي لقصة اليابان، وإنما تأمل لدلالتها ومغزاها، أي ماذا كانت هذه الدولة (وغيرها من الأمثلة المشار إليها) في ماضيها وكيف أصبحت اليوم، لنلقي من خلالها نظرة على واقعنا العربي.

نعم، تعرضنا بدورنا للاحتلال لسنوات طويلة وكذلك عانينا ــ ومازلنا- من صراعات إقليمية ممتدة كالصراع العربي الإسرائيلي وأخرى طارئة كتلك التي نشهدها الآن في كافة أرجاء المنطقة، ولكننا أيضاً حصلنا على استقلالنا منذ عقود فماذا حدث؟ بقيت الصراعات الإقليمية مفتوحة نضيف إليها كل يوم صراعاً جديداً.

فالصراع العربي الإسرائيلي لم يحسم حرباً أو سلماً واخُتزل في مشادات إعلامية حول التطبيع واللا تطبيع، والجانب الفلسطيني منقسم ما بين حماس والسلطة الوطنية ليعود بنا الى المربع الأول وتتوارى القضية عن الساحة مُخلية مكانها لحروب دينية وطائفية وحروب بالوكالة حتى بات الجميع يصارع الجميع.

وفي الداخل ننشغل يومياً بالقضايا الصغيرة وبالاتهامات المتبادلة وبملاحقة الأفراد بالتكفير أو التخوين لنزيد من عبثية المشهد. مهما كان ما مررنا به فلن يكون أفدح مما حدث في الحربين العالميتين، ولكننا لا نريد أن نبدأ، وهذه هي قصتنا.