يشعّ مفهوم التسامح بالأمل لأي مجتمعٍ يطبّقه. لم يكن ترسيخ التسامح عفوياً، بل احتاج إلى جهود اجتماعية وسياسية، وحين نشأ لأول مرةٍ في أوروبا، تبلور نتيجة للحرب التاريخية الكارثية بين البروتستانت والكاثوليك، فجاء مفهوم التسامح، ليضع حداً للجنون غير المسبوق في الحروب الدينية الأوروبية. وهذا ما دفع الفلاسفة حينها إلى وضع المفهوم حيّز التنظير والشرح ليتبعه التنفيذ، بعد ذلك بسنين، عبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

أتوقف عند شخصيتين أساسيتين، لا بد أن نذكرهما إذا ذُكر مفهوم التسامح، وهما فولتير، وجون لوك. كتبا في الموضوع شرحاً وتوضيحاً وتنقيحاً، حتى بات التسامح لا يمكن فهمه أو شرحه، إلا بالدخول على كتابتيهما وفهمها والغرق في بحار معانيها، وإدراك مغزى الأفكار، وذكاء المعالجة في ما كتباه عن الموضوع.

لا يكفّ فولتير في رسالته حول التسامح عن توبيخ مجتمعه المسيحي، حيث يشرح كيف كان: «اليابانيون أكثر الناس تسامحاً، فقد تعايشت اثنتا عشرة ديانة بأمانٍ في إمبراطوريتهم، وقد جاء الآباء اليسوعيون ليضيفوا إليها ديانة جديدة هي الديانة الثالثة عشرة، بيد أن هؤلاء سرعان ما جهروا برفض بقية الأديان فتسببوا في نشوب حربٍ أهلية، لا تقل بشاعة عن تلك التي فجّرتها الرابطة الكاثوليكية، فعمّ الدمار والخراب، ومحق الدين المسيحي من الوجود في حمامٍ من الدم.

وقد أغلق اليابانيون امبراطوريتهم في وجه بقية العالم، وباتوا ينظرون إلينا وكأننا وحوش كاسرة، شبيهة بتلك التي قضى عليها الإنجليز، وطهّروا جزيرتهم منها، وعندما أدرك الوزير كولبير، ما بنا من حاجةٍ بينما هم ليسوا بحاجةٍ إلينا، عقد معهم علاقاتٍ تجارية، ولكن عبثاً فقد واجهوه برفضٍ صلب لا رجوع عنه. العالم بأسره يقطع لنا الدليل على أنه لا جدوى من ممارسة التعصب، ولا أصلاً من الدعوة إليه».

بينما يدخل جون لوك بطريقةٍ مباشرةٍ مستنداً إلى إرث التسامح الديني الموجود أصلاً لدى المسيحيين، حين يتعجّب من بعض تصرفات المتعصّبين: «أنا أعتقد أن أي إنسان يتصوّر أنه مهيأ لإنزال العذاب بإنسانٍ آخر بدعوى أنه ينشد خلاص نفسه، فإن مثل هذا الإنسان يبدو غريباً عني، وعن أي شخصٍ آخر، ومن المؤكد أنه لا يوجد إنسان يعتقد أن مثل هذا الفعل يصدر عن المحبّة وإرادة الخير».

وبرغم سيادة التسامح في أوروبا اليوم على المستوى الاجتماعي بفعل القوانين الضابطة، وقيام الدولة ومؤسساتها بحماية التداخل بين سلطات الأفراد على بعضها البعض، إلا أن مفهوم التسامح لديهم بقي موضوع نقاشٍ وحوار، فعلى سبيل المثال.

فإن فيلسوف التفكيك الفرنسي جاك دريدا يميّز بين التسامح الطبيعي البريء غير المشروط وبين الصفح الذي يأتي «بفوقية»، وفي كتابٍ مشترك بعنوان: (المصالحة والتسامح)، يقول دريدا: «ما أحلم به وأحاول التفكير فيه، كنقاء صفح جدير بهذا الاسم، هو صفح بلا سلطة، لا مشروط.

ولكنه بلا سيادة، تبقى المهمة الأكثر صعوبةً إذاً، الضرورية والمستحيلة فيما يبدو لي، هي فك الارتباط بين (اللامشروطية والسيادة)، فهل سننجز ذلك في يومٍ من الأيام؟ الظاهر أن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت».

نحتاج إلى تذكر التسامح في تاريخ الإسلام في العهود الذهبية أيام كان اليهود والمسيحيون في الأندلس موضع احترامٍ من المسلمين ولهم حقوقهم ويتعامل معهم بطريقةٍ إنسانية راقية، بعيداً عن العنف، لئلا نكرر تجارب الأمم الأخرى في الدماء والعنف والحروب والاستئصال.

ولنتذكر قول فولتير: «إن العنف المسعور الذي يدفع إليه العقل اللاهوتي المغلق، والغلوّ في الدين المسيحي المساء فهمه، قد تسببا في سفك الدماء وفي إنزال الكوارث بألمانيا، وبإنجلترا بل حتى في هولندا، بقدر لا يقل عما حدث في فرنسا».

التسامح هو الأم هو المستقبل هو مناخ العيش المشترك الحضاري المتمدّن.