لا أحد يتوقّع طبعاً أن تسفر زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لجزيرة كوبا، عن أي تأثيرات دولية مهمّة، لكنّها حتماً زيارة مهمّة جداً في معانيها الرمزية، وفيما ستتركه من نتائج إيجابية على العلاقات بين البلدين، التي سادها حال القطيعة لأكثر من نصف قرن.
زيارة الرئيس أوباما إلى كوبا، جاءت تتويجاً لما بدأته إدارته من إعلان في نهاية عام 2014، عن السعي لإعادة العلاقات بين واشنطن وهافانا، ثمّ عن إعادة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين في العام الماضي. وهو أول رئيس أميركي يزور كوبا منذ عام 1928، ولذلك كسبت هذه الزيارة طابعاً سياسياً مهمّاً، لكن قيمتها الفعلية الآن، هي في توقيتها ومعانيها. فالزيارة حدثت في الأشهر الأخيرة من حكم أوباما، وستكون هي - كما الاتفاق الذي حصل مع إيران – في رأس الإرث السياسي له على مستوى السياسة الخارجية، كما أنّ الزيارة سيتمّ توظيفها حتماً في الانتخابات الأميركية المقبلة في شهر نوفمبر، وهي أيضاً ستخدم من دون شك، المصالح الاقتصادية والتجارية الأميركية في السوق الكوبي الجديد.
ومن المعاني الرمزية المهمّة لزيارة أوباما لهافانا، فشل سياسة المقاطعة والعقوبات في تغيير نظام الحكم في كوبا أو تغيير سياساته، تماماً كما قال أوباما عن ذلك. لكن الحديث عن كوبا، ربّما هو أيضاً «تمرين» لما تراه إدارة أوباما مطلوباً مع إيران أيضاً. فقد حدث هذا التزامن بين التوجّه «الأوبامي» الجديد نحو كوبا، وبين نجاح المفاوضات مع إيران في العام الماضي، وربّما سيكون الحال مشابهاً هذا العام في مستقبل طبيعة العلاقات الأميركية-الإيرانية.
كان في أجندة الرئيس أوباما حينما وصل للرئاسة الأميركية، أن يغلق «معتقل غوانتانامو» في كوبا، وها هو أوباما يفتح كوبا أمام الأميركيين، بينما المعتقل ما زال معتقلاً!. وفي الحالتين، برزت معارضة «الجمهوريين» لرغبات وقرارات الرئيس «الديمقراطي». فهكذا هي طبيعة الحكم في الولايات المتحدة، وما كل ما يتمنّاه «الرئيس» يدركه!
أمورٌ كثيرة تغيّرت في نظرة الشعوب العربية للسياسة الأميركية خلال حقبة الخمسين سنة الماضية، ولم تكن رؤية البلاد العربية للولايات المتحدة الأميركية في مطلع القرن العشرين، كما هي عليه الآن في مطلع القرن الجديد. بل على العكس، كانت أميركا بنظر العرب آنذاك، هي الدولة الداعمة لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الأمر الذي أكّدت عليه «مبادئ ويلسون»، وهي 14 مبدأ قُدِّمت من قِبَل رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون للكونغرس الأميركي بتاريخ 8 يناير 1918، بعد الحرب العالمية الأولى. واستمرّت النظرة العربية الإيجابية لأميركا طيلة النصف الأول من القرن الماضي، خاصّةً أنّ أميركا لم تستعمر أو تحتل، قبل حربها الأخيرة على العراق، أيَّ بلدٍ عربي (كما كان حال عدّة دول أوروبية)، ووقفت واشنطن في عام 1956، خلال فترة رئاسة الجنرال أيزنهاور، ضدّ العدوان البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي على مصر.
وما هو لافتٌ للانتباه، أنّ عقد الخمسينيات من القرن الماضي، قد شهد متغيّراتٍ دولية مهمّة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، إضافةً إلى ما كانت تشهده المنطقة العربية وجوارها الإقليمي من تفاعلات كبيرة طالت فلسطين والمشرق العربي ومصر وتركيا وإيران، وبشكلٍ متزامن أيضاً مع صعود الدور الإسرائيلي في المنطقة، وفي خدمة المصالح الغربية، التي تمحورت آنذاك بكتلة معسكر «حلف الناتو»، تحت قيادة أميركية، في مواجهة كتلة دولية أخرى، برزت هي كتلة «حلف وارسو» بزعامة روسية.
وها هو العالم الآن يشهد متغيّرات دولية وانتقالاً من عصر الإمبراطورية الأميركية التي قادت العالم وحدها لأكثر من عقدين، إلى عصر التعدّدية القطبية، كما يشهد انتقال موسكو من موقع «العدوّ» لواشنطن (كما كان الأمر إبّان الحرب الباردة)، إلى حال «الخصم» (كما في السنوات الأخيرة)، ثمّ إلى موضع «الشريك» لواشنطن في حلّ الأزمات الدولية، وفي بناء نظام دولي جديد، لموسكو ولواشنطن فيه، دور الريادة المشتركة.
الملاحظ أيضاً في حقبة التحوّلات الدولية والإقليمية الحاصلة، أنّ المجمع عليه تقريباً في منطقة «الشرق الأوسط»، بما فيها من عرب وفرس وأتراك وإسرائيليين، هو الغضب المشترك على السياسة الأميركية، وكأنّ واشنطن قد خسرت أصدقاءها، ولم تكسب خصومها بعد.
حال السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط»، سيكون مستقبلاً، في تقديري، كما هو في «الشرق الآسيوي»، حيث تحرص واشنطن على علاقاتٍ جيدة لها مع كلٍّ من الهند وباكستان، رغم ما بينهما من أزمات وحروب، وكما هي أيضاً سياسة التوازنات التي تتبعها واشنطن مع كلٍّ من اليابان والصين. لكن من الواضح أنّ هناك تخلّياً عن السياسة الأميركية التي اتّبِعت في حقبة العقد الأول من هذا القرن، وبأنّ هناك موافقة الآن من صُنّاع القرار الأميركي على الأجندة التي حملها معه الرئيس أوباما في عام 2009، ولم يقدر على تنفيذها إلا في هذه المرحلة، وهي التي تنهي عهد «الانفرادية الأميركية» في قيادة العالم، وتريد استخدام «القوة الناعمة» والتسويات السياسية للأزمات الدولية، بديلاً عن أسلوب الحروب، والتورّط العسكري الأميركي في خدمة الأهداف الأميركية.
هذا التحوّل الحاصل في الأساليب الأميركية يسبّب اعتراض بعض «أصدقاء» أميركا بالمنطقة، وجعل واشنطن من «المغضوب عليهم»، لكن هل العرب في أحسن الأحوال الآن؟!. الإجابة هي طبعاً بالنفي، فالعرب اليوم هم في أسوأ حال من الانقسامات والصراعات الداخلية، ومن افتقاد البوصلة السليمة لرشد حركتهم، ومن هيمنة الأفكار والممارسات الطائفية والمذهبية والإثنية. وهو حالٌ يجعل من الأوطان العربية أرضاً خصبة لكلّ مشاريع التفتيت التي تراهن عليها إسرائيل وأطراف أجنبية عدّة. وكما جرى استغلال التخلّف العربي في مطلع القرن العشرين لتحقيق هيمنة أوروبية على المنطقة، من خلال شرذمة الأرض العربية، يتمّ الآن بناء متغيّرات دولية وإقليمية، من خلال توظيف الانقسامات الحاصلة لدى الشعوب العربية. والملامة هنا على العرب أنفسهم، قبل أيِّ طرفٍ أجنبيٍّ آخر.