مر طريق الجحود بالعروبة بعديد من المحطات، ولكن أوضحها محطتان أساسيتان: هزيمة يونيو 1967، وما أحدثته من انكسار في العقل العربي وفي النفس العربية، وما نتج عنها من تعرية الأنظمة العربية تعرية كاملة أمام شعوبها وأمام العالم، وما أعقب ذلك من احتلال إسرائيل لأراضٍ عربية شاسعة في أكثر من دولة عربية، فضلاً عن الاحتلال التاريخي الكامل لأرض فلسطين.

أما المحطة الثانية في طريق الجحود بالعروبة، فقد كانت حماقة غزو الكويت من قبل النظام العراقي السابق، والحقيقة أن هذا الغزو كان هو المقدمة الأساسية للمشهد العربي الراهن، بكل ما فيه من تمزق واحتراب وتخلف وهوان.

وبعد هاتين المحطتين في طريق الجحود بالعروبة، تأتي صدمة أو فاجعة ما حدث بين الفلسطينيين بعضهم وبعض، من اقتتال شرس، أشد شراسة من الاقتتال بينهم وبين الإسرائيليين، وحققت الفصائل الفلسطينية المتحاربة، بكل حماقة وبكل قوة أيضاً، لإسرائيل ما تريده كاملاً، وأعطت للجاحدين بالعروبة أقوى المبررات. وهل بعد هذا الذي حدث، يستطيع أحد أن يتكلم عن العروبة إلا بأسوأ النعوت.

هاتان هما المحطتان الأساسيتان، وهذه هي الصدمة الفاجعة التي زلزلت القلوب والعقول.

وقد كان أمر انحسار المد العربي يسير في طريقه، دون أن يهتم به أحد، وكأنه قدر مفروض، إلا أنه في الفترة الأخيرة، بدأ في مصر، حيث أخذ يتزايد يوماً بعد يوم، وأذكر ونحن في لقاءاتنا التمهيدية الأولى لإنشاء «حزب الجبهة الديمقراطية»، أنني كنت أتحدث عن ضرورة إبراز البعد العربي في برنامج الحزب، فإذا بمن يقول لي «مد عربي إيه يا دكتور، إنت لسه مصدق الكلام ده»، وأحسست بألم ومرارة عميقين ينبئان عما يتفاعل داخل عقل ونفس المتحدث من مشاعر متضاربة.

وقد تكرر هذا الأمر في ندوة مهمة، أقامها أخيراً المجلس المصري للشؤون الخارجية عن «المشهد العربي الراهن»، وفي الجلسة الأولى، تحدث ثلاثة من مشاهير المفكرين المصريين أمام جمهور من المثقفين والمهتمين بالشأن العربي، وبالشأن العام بصفة عامة. أحد هؤلاء الثلاثة من الذين ما زالوا صامدين، وما زالوا يرون أن الانكسار العربي الراهن، هو نتيجة من نتائج انحسار المد العربي، وأن هذا الانحسار يخطط له، ويغذى من قبل القوى التي لا تريد لهذه الأمة خيراً ولا تقدماً.

وأما الثاني، فقد كانت غصة المشهد العربي الراهن وآلامه وفواجعه، واضحة في عباراته.

أما الثالث، فقد عالج الأمر بعقلانية - خاصة به - تؤكد أن العروبة وهْم، وأن ما يحدث على الساحة العربية أمور طبيعية، لم يتعمد أحد أن يخططها لنا، أو يفرضها علينا. وأن التفتيت ثم التجميع، هي عمليات تلقائية، تحدث في المجتمعات البشرية، ولا مبرر للتفكير فيها «بمنطق المؤامرة».

وبعد أن انتهى المحاضرون الثلاثة من عرض وجهات نظرهم، دعاني الصديق الذي كان يرأس الجلسة، إلى التعقيب، فأبديت انحيازي للأول، الذي يرى أنها فترة انحسار للمد العربي، وستنتهي، وتساءلت متوجهاً إلى الثاني، الذي لا يرى أن المنطقة العربية مستهدفة من أحد، من الذي يفتت العراق ويدمره الآن، ولمصلحة من؟، ومن الذي يفكر في خريطة جديدة للمنطقة، تجمع أشلاء من هنا وأشلاء من هناك، وتضع إسرائيل في القلب، وترسخ حقيقة أنها القوة الوحيدة المهيمنة في المنطقة.

هذا عن العروبة. أما الانسحاب من الوطن، فقد أثارت لواعجه في نفسي كلمة للكاتب والأديب المصري، مجدي مهنا، عقب عودته من رحلة علاج في الخارج.

والذي يتابع مجدي مهنا، يدرك مدى عمق إحساسه بوطنه، ومدى إحساسه بالمسؤولية عنه، ومدى تعبيره عن مشاكله وآلامه، ولكن العمود الذي آثار لواعجي وهمومي، هو ذلك العمود الذي كتبه عقب عودته من الخارج في «المصري اليوم»، والذي يكاد فيه أن يجحد بالوطن، وكل كلمة وكل عبارة وكل سطر في ذلك العمود، تنضح بالألم الواصب العميق. كل كلمة، هي صرخة من الأعماق. هي بكاء على هذا الوطن ومن أجله، رغم إيمانه بالقيادة التي تحكم البلاد وبوطنيتها وحسن نواياها.

أنا واثق ثقة لا حدود لها، أن مجدي مهنا لم ينسحب من الوطن، وأنه لا يستطيع ذلك حتى لو أراد. ودليلي على ذلك، أنه لم يتوقف عن الكتابة عن هموم الوطن، ولم يتوقف عن الإحساس بالمسؤولية نحو أوجاعه وآلامه ومشاكله. ولكن صرخته تلك المؤلمة، ليست صرخته وحده، وإنما هي صرخة آلاف، بل ملايين من الشباب الذين يحسون أن الوطن في خطر، وأن هناك من يعيثون فيه فساداً ونفاقاً، ويجنون ثمار فسادهم ونفاقهم، في حين أن شرفاء هذا الوطن، بعيدون عن الساحة.

لا.. لن يفعل ذلك مجدي مهنا، ولن يفعله الشرفاء، سيظلون صامدين، ولو أمسكوا على الجمر، ذلك أن مصر والعروبة تستحق أفضل مما هي فيه بكثير، وسيتحقق لمصر ما تستحقه، بإرادة أبنائها الذين يؤمنون بها.