قالوا إن «جسر الملك سلمان» المزمع إنشاؤه ليربط بين مصر والسعودية، ويحقق التواصل بين عرب آسيا وعرب أفريقيا، سوف يحقق منافع اقتصادية تقدر بحوالي مئتي مليار دولار، وربما أكثر من ذلك بكثير، إذا ما تم الأخذ في الاعتبار المشروعات الخدمية الأخرى المرتبطة به، وقالوا أيضاً إن زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للقاهرة، أسفرت عن اتفاقات اقتصادية لإنجاز مشروعات في كل المجالات تقريباً، تقدر قيمتها بنحو خمسين مليار دولار، بما ينقل البلدين إلى ما بعد حالة التحالف الاستراتيجي.
لا بأس في ذلك، فتلك خطوات رائعة، ونتائج مبهرة ومرغوبة، ولكن تظل هناك حقيقة مؤكدة، تتمثل في أن كثيراً من الخطوات والإنجازات والقرارات، لا يمكن تقديرها بأي قيمة مالية أو مادية، مهما كثر الحديث عن تقديرها وتثمينها، وربما من هذه الأشياء، الجسر المصري السعودي، الذي أثمرت عنه زيارة خادم الحرمين للقاهرة، وليس المقصود هنا الجسر البري الذي سيربط الأراضي المصرية بالأراضي السعودية، وأعلن عن إنشائه خادم الحرمين الشريفين، واقترح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تسميته «جسر الملك سلمان»، وهو مشروع عملاق، إذا ما استكمل وأنجز كما ينبغي، لربما تغيرت الكثير من الحقائق الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة.
المقصود بالجسر المصري السعودي، هو حالة التوحد والتقارب العميق بين الدولتين الكبيرتين والجارتين المسؤولتين، والتي تجلت في أروع صورها، خلال زيارة سلمان للقاهرة، ويصعب ترجمة نتائجها في أرقام صماء، إنها من نوعية الأحداث التي تخلق واقعاً سياسياً مختلفاً، وتؤسس لمرحلة استراتيجية قد تكون المنطقة في أمس الحاجة إليها في المرحلة الراهنة ومستقبلاً، بعدما وصلت أوضاعها إلي حالة يرثى لها في كل المجالات، زيارة الملك سلمان مثلاً من حيث الأهمية والتأثير والنتائج، ربما يمكن مقارنتها بزيارة الملك عبد العزيز آل سعود لمصر عام 1946، وهي الزيارة الوحيدة التي قام بها العاهل السعودي مؤسس المملكة خارج بلاده علي الإطلاق، واستغرقت أكثر من أسبوعين، غيرت من شكل العلاقات بين البلدين، وأرست واقعاً مختلفاً في المنطقة بكاملها، ولمن عايشوا وقائع الزيارة وقتها أو تابعوها عبر الأفلام الوثائقية والصور والإصدارات الخاصة من صحف ومجلات وأوراق بريدية، بمقدورهم أن يقيموا كيف كانت أهمية الزيارة التي لا تقدر بمال.
وإذا كانت مصر منذ 25 يناير 2011، تمر بفترات من الاضطراب وعدم الاستقرار، إلا أنها بحكم عمقها التاريخي وترابطها المجتمعي، تؤكد المقولة الشهيرة «أن الدول الكبرى قد تمرض، ولكنها لا تموت»، وقد نجحت مصر بالفعل في عبور مراحل عصيبة، بفضل الصبر والاحتمال وعدم الانزلاق نحو الانتحار، وأيضاً بفضل تحركات الرئيس السيسي التي أعادت لمصر الكثير من مكانتها وهيبتها، وكذلك أصبح ذلك ممكناً، بفضل الموقف الإقليمي العربي، والخليجي على وجه الخصوص، من مشروع 30 يونيو، وقدمت له كل دعم ممكن، ساعد مصر كثيراً على كسر الحصار الدولي حولها.
عودة الاستقرار السياسي والأمن المجتمعي إلى مصر والفوز باعتراف العالم بشرعية السيسي، هما أقوي إنجازات فترة حكمه حتى اليوم، ولكن المؤسف في الأمر، أن أطرافاً دولية تشعر على ما يبدو بالانزعاج الشديد، لمجرد استشعارها بأن مصر على وشك الخروج من عنق الزجاجة، أو أنها في سبيلها لاستعادة دورها الفاعل والمؤثر في المنطقة، فبدأت في وضع العراقيل والصعاب أمام المشروع المنطلق بقوة، لإسقاطه أو لتعطيله، أو حصاره على أقل تقدير، لأن تلك الأطراف لا ولن تنسى للسيسي أنه أسقط مشروعاً ضخماً يرتبط بنظرية الفوضى الخلاقة، فضلاً عن أنه يتبنى مشروعاً وطنياً لا ترضى به أطراف وقوى دولية مهيمنة.
وعلى هذه الأرضية، جاء حادث تفجير طائرة السياح الروس فوق أرض سيناء خلال شهر أكتوبر الماضي، ثم جاء حادث مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، والعثور على جثته ملقاة في مكان معزول بطريق مصر – إسكندرية الصحراوي، وسط ظروف غامضة، لم يكشف اللثام عنها بعد، وربما يكون كذلك عملاً مخابراتياً بحتاً، بهدف ضرب العلاقات المصرية – الإيطالية، وتشويه صورة مصر وصولاً مرة أخرى إلى ما حققه حادث إسقاط الطائرة الروسية، وقد تحولت الواقعة بالفعل إلى أزمة بين القاهرة وروما والاتحاد الأوروبي من خلفها، وأدت إلى فتح ملفات تثير القلق، على رأسها ما يثار حول حقوق الإنسان في مصر.
ليس هذا فحسب، ولكن هناك بالفعل ما يشبه الحرب الاقتصادية على البلاد، فما كاد مشروع ازدواج قناة السويس يعلن عن نجاحه، حتى انطلقت حملات خفية لصرف السفن العالمية عنها، وسلوك ممرات بحرية بديلة، بل تم أيضاً خلق سوق سوداء في بعض الأسواق العربية لشراء تحويلات المصريين من العملات الدولية الحرة، بدلاً من تحويلها إلى بلادهم، ما أدى إلى حدوث أزمة خانقة تتعلق بالعملات الأجنبية، وتراجع سعر الجنيه بصورة حادة في فترة قياسية.
وليس خافياً، أن مثل هذه التصرفات، ليست عشوائية، ولكنها تأتي في إطار أشمل لخطة محكمة لحصار مصر، وأغلب الظن، أن القيادة المصرية مدركة لحجم الأزمة ولطبيعة المشكلة، ولا شك في أنها قادرة على المواجهة وتجاوز الصعاب، لأن المرحلة الأخطر والأشد صعوبة في تاريخ مصر، قد ولت بالفعل، وأغلب الظن، أن زيارة الملك سلمان لعبت وستلعب دوراً كبيراً في هذا الاتجاه، بل إنها تؤسس لمفهوم جديد للأمن القومي العربي، بحيث تصبح جسراً للتواصل والتكامل، ليس بين مصر والسعودية فقط، بل لكل أقطار الوطن العربي.