يبدو استقرار العلاقات المصرية ـ السعودية من الأهمية للعالم العربي بما لا يبقيها رهينة لإرادة أي جهة محلية أو إقليمية أو دولية، فكل بوادر خلاف أو صدام بينهما ليس إلا خطأ في الحساب يضعفهما معاً، وينال مما تبقى من مناعة الجغرافيا العربية إزاء الاستراتيجيات التي تبغي التهامها.

تاريخياً، تمحورت قيادة الكتلة الجيوسياسية العربية تاريخياً حول دول أربع توارثت الخلافة والمكانة وهي السعودية وسوريا والعراق ومصر.

وفي القرن العشرين شكلت جميعها ما يشبه مربعاً استراتيجياً، أخذت أضلاعه تتنازع القيادة، وتتعايش مع ما تفرزه نزاعاتها من توترات وتحالفات، وصولاً إلى لحظة الذروة المأساوية التي شهدت خروج العراق من كفة الحساب الاستراتيجي أعقاب هزيمته في حرب عاصفة الصحراء التي صاغت وقائعها محوراً تبلور تلقائياً للذود عن مفهوم السيادة الذي قام عليه نظام جامعة الدول العربية، من خلال توفير قوة الإسناد المادي والعسكري والمعنوي للحشد الدولي بهدف تحرير الكويت.

وعلى مدى العقد ونصف العقد استمر هذا المحور في العمل بكفاءة لتوفير الحد الأدنى من المناعة العربية، حتى وقع في شراك ما حدث للعراق عام 2003م، والذي حفز إيران للتدخل في شؤونه على قاعدة المكون الطائفي، مروراً بالانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس، الأمر الذي فجر انقساماً تبلورت ملامحه بين ما سمي «معسكر ممانعة» جسدته سوريا مع حماس وحزب الله ومن خلفهما إيران، وما سمي «معسكر اعتدال» قادته مصر والسعودية ومن خلفهما الأردن وفتح، ما كان يعني تشطيراً للمحور الثلاثي إلى نواة صلبة تمثلت في مصر والسعودية، وهامش متحرك من الجماعات والمنظمات في قلبه سوريا، ليعيش العالم العربي حالة ارتباك وانقسام وركود هائلة لنصف عقد على الأقل.

غير أن الركود والانقسام سرعان ما استحالا مطلع هذا العقد موجات من القلق والخوف بفعل عاصفة الربيع العربي التي استهدفت إسقاط نظم حكم، ودفع مجتمعاتها على طريق الحرية، فإذا بها تدفع الغرائز الطائفية والنزعات المذهبية على طريق التوحش، إلى درجة أحالت دولها الوطنية إلى أنهار دماء يغذيها المتطرفون، وساحة خلاء يتصارع عليها الآخرون، ويتقاسم النفوذ فيها اللاعبون الدوليون والإقليميون، وهنا وقع تحولان أساسيان:

أولهما يتعلق بسوريا التي أصبحت موضوعاً لقضية تشغل الآخرين، بدلاً من كونها قطباً ينشغل بقضايا الآخرين، وبدلاً من كونها رافعة أساسية لمحور ثلاثي يذود عن الأمن العربي، صارت هي العبء الأكبر على الطرفين الآخرين في المحور نفسه، واللذين يواجهان اليوم أخطر عواصف التمزيق والتفتيت التي هبت على النظام العربي إلى درجة صارت تثير الأسئلة المرة حول احتمالات بقائه.

وثانيهما يتعلق بمصر التي بات الجدل مثاراً حول دورها في قيادة الإقليم بين تيارين فكريين: الأول يتمحور حول رأي في أن قيادة مصر للعالم العربي أمراً بديهياً لا سبيل إلى التصرف خارج مقتضياته، وإلا كان الأمر محض خيانة تاريخية لها. أما الثاني فيتمحور حول رأي لآخرين، اعتبروا أن زمن القيادة المصرية قد استهلكت معطياته وبادت مقوماته، وأن انتظار عودته محض تضييع للوقت، ومن ثم صار على العرب «القادرين» أن يتصرفوا، وإن انقسم هؤلاء بين من يطالب بحث مصر على المساهمة من باب المساندة، وبين من رأوا إمكانية تجاوزها والمضي بعيداً تماماً دون انتظارها.

وظني أن المركزية المصرية حقيقة يصعب تجاوزها، إذ تحرسها ركائز هيكلية تخص جغرافيتها السياسية وكتلتها الحيوية، ولكنها في المقابل ليست هبة مجانية لها طابع الأبدية، بل هي ثمرة طبيعية لعملية جدلية كبرى، تاريخية وحضارية، تعيد هيكلة الأدوار وإنتاج المكانة تبعاً للقدرة على إدارة مواردها الشاملة، وتطورات القيم السياسية، وتبدلات الرؤى الثقافية. وهنا يجب على المصريين عدم الشعور بحساسية تجاه الجدل حول مركزية بلدهم، مع احتفاظهم بالحق في التوجه قصداً إلى العمل بكل الطاقة لاستعادتها في عالم يتغير بسرعة.

كما يحق للسعوديين العمل كذلك على زيادة رقعة دورهم وتدعيم ركائز مكانتهم، ولحسن الحظ فإن التيار العام العقلاني على الجانبين يدرك ذلك، مثلما يدرك الحقيقة (الكبرى) وهي أن حجم الضغوط الإقليمية والدولية، ومساحات الحرائق في الديار العربية، صارت من القوة والاتساع بما يكفي لاستهلاك طاقات جميع القادرين، ومن ثم صار مطلوباً الإقلاع عن فهم القيادة باعتبارها عملية «وراثة مطلقة» إلى كونها آلية «تضامن استراتيجي»، تقتضي تشارك المراكز الأكثر فعالية في توجيه الحركة نحو الأهداف «العربية» الرئيسية بدلاً من الصدام حولها، ما يصوغ تحالفات مرنة بين جميع المؤمنين بالمشروع العربي، هذا لو اتفقنا على أن النواة الصلبة لهذا المشروع تتمثل في تحالف مصري ــ سعودي، أثبتت خبرات القرن العشرين، أن حضوره يقف خلف أكثر لحظات النظام العربي ازدهاراً وفعالية، وأن غيابه يقف خلف أكثرها انكساراً وهامشية.