الرؤى الكبيرة هل التي تصنع التغيير. التجارب العالمية التي تروي لنا قصص النجاح الضخمة بدأت من رؤية. فتجربة سنغافورة بدأت من رؤية زعيم حول سنغافورة من جزيرة صغيرة الى واحدة من انجح اقتصاديات العالم ومركز للتجارة العالمية. يقول لي كوان باني نهضة سنغافورة «اصنعوا الانسان قبل اي شيء، امنوا المرافق والخدمات ثم اجعلوه يستخدمها بطريقة حضارية ونظيفة، واعيروا التفاصيل الحياتية اليومية كل الاهتمام».

وهناك التجربة الماليزية التي قادها الرئيس الاسبق مهاتير محمد الذي أرسى النقلة النوعية في مسار ماليزيا وهو يؤمن بالمبادرة لصنع التغيير ويقول «إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا تحدث بين عشية وضحاها، وعلى الناس أن يتحركوا لإحداثها».

وهناك ليس قصصا لدول، بل حتى لأفراد امتلكوا الرؤية فصنعوا التغيير فتجربة ستيف جوبز صانع نجاح شركة أبل الذي امتلك رؤية واضحة للمستقبل واستطاع ان يصنع اكبر قصة نجاح لشركة في الوقت المعاصر وهو صاحب المقولة الشهيرة «التجديد هو ما يميز القائد عما يتبعه».

والرؤية السعودية هي مشروع لتصور كامل ينقل الدولة ككل الى مرحلة جديدة في مصاف الدول المتقدمة. ومن الظلم اختزال مشروع الرؤية السعودية ٢٠٣٠ في جانبها الاقتصادي رغم اهميته. بل هي تشمل جوانب اجتماعية وانسانية وتنموية وعسكرية ومرتبطة بأرقام ومقاييس للأداء.

واعتقد ان هناك عناصر توضح جانبا مهما من هذه الرؤية لم تأخذ الاهتمام الكافي، ففي قيم المجتمع تقول الرؤية (سيكون منهج الوسطية والتسامح وقيم الاتقان والانضباط والعدالة والشفافية مرتكزاتنا الأساسية لتحقيق التنمية في هذه المجالات). وهي عناوين مهمة للمرحلة المقبلة فالرؤية تسعى لمجتمع منتج وليس مستهلكا.

واقرار مبدأ الوسطية والتسامح هو علاج لكثير من الظواهر الاجتماعية التي تظهر عند بعض الافراد وتكون ارضية لفكر متشدد وانغلاق مجتمعي. هذه الكلمات هي الخطوط العريضة لملامح الفكر السعودي الجديد.

ولقد كشف الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد وعراب مشروع الرؤية السعودية ٢٠٣٠، عن تصوراته للمستقبل السعودي في حوارات صحفية مع وسائل اعلامية مختلفة. وهي تصورات طموحة وتحمل الامل للأجيال السعودية، وعلى المستوى الشخصي اتفق معه في معظم طروحه، واختلف معه في قوله إن قضية قيادة المرأة للسيارة في السعودية قضية مجتمعية لم يتقبلها المجتمع السعودي بعد، وأرى أن الوقت قد حان وينتظر القرار.

وركزت الرؤية على قضية الشفافية والحوكمة الرشيدة وأنه لن يكون هناك تهاون او تسامح مطلقا مع الفساد بكل مستوياته. وهذا المحور تكمن اهميته في أن محاربة الفساد اصبحت مطلبا شعبيا، وان تتحدث الرؤية بشكل مباشر عن هذه القضية فهي الخطوة الاولى في حل هذه الاشكالية.

وذلك من خلال الاعتراف بوجودها. ولذلك يقال الاعتراف بوجود المشكلة نصف الحل. وفي ضمن السياق تحدثت الرؤية عن مراجعة دقيقة للهياكل والاجراءات الحكومية بحيث تضمن الفصل الواضح بين عملية اتخاذ القرار وتنفيذه ومراقبة التنفيذ. وهذه في غاية الأهمية بحيث يضمن المجتمع شفافية في الرقابة على الاداء وتقييم النتائج.

وتكررت اشكالية تعثر المشاريع ليس فقط الانشائية، بل حتى مشاريع ادارية وهيكلية في السعودية. وهذا تم طرحه بشكل واسع في الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. ومن الواضح أن الرؤية ادركت ذلك بوضوح فتم تأسيس مكتب لإدارة المشروعات في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، كما تم تأسيس مركز للإنجاز والتدخل السريع وهذا الاسلوب المبتكر يضمن اعتماد المفهوم العلمي في ادارة المشاريع.

ويشكو كثير من السعوديين أن كثيرا من الانظمة يحتاج لها تحديث وبعضها منذ اكثر من اربعين سنة، ولذلك استحدثت الرؤية مشروع مراجعة الانظمة وهي كما جاء في الرؤية، لمراجعة الانظمة القائمة وسن انظمة جديدة طال انتظارها منذ سنوات. والحقيقة لا يمكن صناعة تنمية حقيقية وانفتاح ما لم تكن تشريعات حديثة ومرنة، ولهذا فبنية التشريعات والانظمة متطلب اساس قبل الولوج في تنفيذ المبادرات الجديدة.

ومن طبيعة الناس التشكيك في اداء الاجهزة وتنفيذها للعمل وبعضهم يتساءلون عن واقعية هذه الاهداف، وربما لهم الحق فبعض التجارب السابقة المتعثرة جعلت الناس يتساءلون عن امكانية التنفيذ وكيفية ضمان تنفيذها بشكل كامل. ولهذا اوجدت الرؤية برنامجا لقياس الاداء تحت مسمى المركز الوطني لقياس اداء الاجهزة العامة. وتم بناء لوحات لمؤشرات قياس الاداء بهدف تعزيز المساءلة والشفافية. واعتقد أن مسؤولية هذا المركز جوهرية في مشروع الرؤية وترجمتها الى واقع.

وهناك خطوة مهمة اعلن عنها في الرؤية وهي في جوهرها تضمن تعزيز حوكمة العمل الحكومي، بحيث يتم تحديد الاختصاصات بوضوح وبالتالي يسمح لها بالتنفيذ بمرونة ويمكن مبدأ المساءلة. حيث سيتم انشاء مكتب للإدارة الاستراتيجية في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية يعمل على مواءمة البرامج ومنع الازداوجية او التضارب في السياسات.

وفي نفس الوقت سيتم انشاء مركز دعم اتخاذ القرار في الديوان الملكي لتقديم المعلومات والبيانات اللازمة لعملية اتخاذ القرار. وهذان المركزان تكمن اهميتهما في ضمان الرؤية الكاملة للقيادة الاستراتيجية سواء في القرار الذي يأتي من هرم الدولة أي من الملك، او ضمان تناغم السياسات الاستراتيجية..

وذلك من خلال مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية. ويلاحظ عدد الهيئات التي سوف تشكل لضمان تنفيذ الرؤية ومراقبة الاداء بشكل شهري وهذا يعزز من فرص النجاح وواقعية الاهداف.

الأمير محمد بن سلمان الذي يترأس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، شاب تنويري ويحمل مشروعا لخدمة البلد ولقد سمعته في لحظة تجل يقول: كان امامي خياران، أن اعيش برفاهية وظروفي تسمح بذلك، أو ان اخدم المجتمع مهما كلفني الأمر. ومن الواضح أنه اختار الخيار الصعب، لكن كما يقال رؤية بلا عمل حلم. عمل بلا رؤية مضيعة للوقت، رؤية مع عمل هي ما يمكن ان تغير العالم. السعودية حددت موعدا لها مع المستقبل.

‫ز