أحد أبرز مظاهر حيوية وكفاءة ومهارات النخب السياسية المؤمنة بالقيم والتقاليد الديمقراطية، هو احترامها لجوهر وأشكال دولة القانون وسيادته على جميع المواطنين، الحكام قبل المحكومين..

والتزامهم بروحه ونزاهته وحيدته في التطبيق، دون تجاوز أو إفراط، والأهم، التزام السلطة الشارعة بالتوازن بين المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والرمزية المتصارعة والمتنافسة بين القوي الاجتماعية المختلفة، وذلك لضمان التوازن السياسي والاجتماعي في البلاد ولا يتأتى هذا الهدف، إلا من خلال العقل السياسي..

والعقل التشريعي الرصين والخلاق، وليس من خلال ضيق الأفق والنزعة المحافظة، التي تري في القوانين أداة لتحقيق مصالحها وأهدافها، وفرض تصوراتها الضيقة للهندسة الاجتماعية والسياسية التسلطية، التي تسعى لتعيد إنتاج رؤى وتصورات سلطوية، ترمي إلى ضبط وتقييد الحريات العامة والشخصية، تحت دعاوى شتى.

بعض هذه التصورات والإدراكات السياسية التسلطية السائدة، تعاني من فجوة عدم التكيف مع متغيرات وسياقات التغير السياسي والاجتماعي والتكنولوجي في عالمنا، ومن هنا، تلجأ إلى مجموعة من الأفكار النمطية التي اعتادت عليها، لتبرير عجزها عن التكيف السياسي الفكري والسلوكي، من مثيل اللجوء إلى مفاهيم غامضة وعامة وغير محددة للتعبير عن الأخطار.

أحد أهم أدوات السيطرة – وفق هوبز- تتمثل في إشاعة الخوف بين المواطنين أو قطاعات أساسية، بحيث يمكن للسلطة الحاكمة أن تحكم سيطرتها.

تمثل نظرية المؤامرة، أداة من أدوات إشاعة الغموض والخوف معاً، وتعتمد على إشاعة حالة نفسية جماعية عن أخطار حقيقية، أو متوهمة، بحيث تخشى معها فئات اجتماعية، وترى أنها مهددة في الأمن والمصالح الاجتماعية والاقتصادية، بحيث تعطي للسلطة الحاكمة مساحة حركة واسعة لتمرير إجراءاتها وقراراتها التي تمس الحريات العامة والشخصية، وتفرض قيوداً عليها.

في مراحل تطور النظام التسلطي، تعتمد نظرية المؤامرة، التي تحولت إلى ثقافة المؤامرة، على غياب الشفافية، وندرة المعلومات الصحيحة، وعلى النظام الإعلامي الموجه من خلال أجهزة الدولة الإيديولوجية، التي تبث المعلومات المبتسرة والغامضة، والمصطنعة في العديد من الأحيان، لتبرير السياسة الرسمية وقراراتها.

التعتيم الإعلامي وعدم الانفتاح المعلوماتي الحر على العالم، هو الذي رفد ثقافة المؤامرة بدماء الاستمرارية والذيوع والانتشار في العقل الجمعي. بعض مصادر الخوف المعمم، قد تكون حقيقة، ولها حضور في الواقع الموضوعي على الصعد الكونية، أو الإقليمية، أو الوطنية، كالجماعات الإرهابية، على نمط القاعدة وداعش والسلفيات الجهادية، ولها تجليات في العنف المفتوح...

وإشاعة الموت والوحشية لتحقيق الردع العام. بعض الخوف والرعب قد يكمن في تمويل ودعم بعض الفاعلين الإقليميين أو الدوليين لبعض هذه الجماعات الإرهابية، تحقيقاً لمصالحهم السياسية، أو لمواجهة أطراف إقليمية أخرى، تمدد دورها ونفوذها السياسي، كإيران.. إلخ.

إنتاج الخوف وإشاعته ووصله بنظرية المؤامرة الخارجية، لم يعد يحقق الوظائف الردعية والسلطوية القديمة، وذلك للتغير الكبير في تكنولوجيات الإعلام والتواصل الاجتماعي والثورة الرقمية، وانكسار الحدود، وأشكال التعتيم على المعلومات على نحو ما كان يتم في العقود الماضية..

ومن ثم، على خطاب المؤامرة أن يتحرر من غموضه وتعميماته، ويحدد ما هي هذه المؤامرة، وموضوعها وأطرافها وأهدافها، ومتى وأين ولماذا؟، إلى آخر هذه الأسئلة.

إن تحرر عقل النخبة السياسية الحاكمة والمعارضة من ثقافة ونظريات المؤامرة، بات من الأهمية بمكان، لإعادة العقلانية والرشد السياسي إلى العقل السياسي والخطاب العام، لأن الثورة الرقمية هادرة بالمعلومات والأخبار والآراء من أركان الدنيا كلها، ولم تعد الأجيال الجديدة الخارجة من أصلابها، قابلة لمثل هذه التفسيرات سابقة التجهيز، ومن ثم، لا تأبه بها، ولا بالخوف الذي تشيعه.

ثمة حاجة ملحة وضرورة للتكيف السلطوي والسياسي مع التغيرات الاجتماعية، لا سيما ارتفاع نسبة الشباب إلى كبار السن في هيكل الأعمار..

ومن ثم، ضرورة تجسير الفجوة الجيلية، من خلال رؤية جديدة وآليات مبتكرة، في ظل شيوع إدراك جمعي بأن ثمة إقصاء للشباب عن السياسة واحتكار الأجيال الأكبر سناً لها، في ظل هذه الفجوة الجيلية، يتطلب الأمر رؤية جديدة وسياسة للحوار، تسعى لبناء توافقات جيلية بين الحكم وبين الشباب، تقوم على خطاب سياسي جديد مفتوح على الحوار والمصالحة..

وبناء التوافق حول الأهداف التنموية والسياسية للمرحلة الحالية والمستقبلية للتطور السياسي في البلاد، يعتمد على المعلومات ورؤية سياسية إصلاحية جيلية لها. وضرورة التركيز على خطاب الأمل في غد سياسي أفضل، حول مآل أوضاع الحريات العامة والشخصية، وفرص العمل والمشاركة السياسية الفعالة.