مع تزايد وسائل الاتصال الاجتماعي بأشكالها المختلفة، أصبحنا نواجه بفيض من الرسائل والمقالات والأحاديث التي تتناول مشاكل الحياة من اقتصاد وسياسة وأدب وثقافة مروراً بالعلوم الطبيعية من نفس الشخص.
فلم يعد غريباً أن يحدثنا نفس الشخص في قضايا الاقتصاد وأسعار الصرف، لكي يستكمل الحديث غداً في قضايا المياه وإصلاح الأراضي الزراعية، ولا يستبعد أن يبدي تعليقاته في اليوم الثالث في أحوال الرياضة وربما أبحاث الفضاء. وهو لا يقدم ذلك باعتباره نوعا من الدردشة بل باعتباره القول الفصل في الموضوع.
والسبب الذي دعاني إلى تحرير هذا المقال، هو أنني أقرأ حالياً في كتاب حديث لمؤلفه ميرفي كينج. وميرفي كنج كان حتى وقت قريب (2013) محافظا للبنك المركزي البريطاني. وقد تخرج كنج في جامعة كمبردج بإنجلترا في الستينيات في القرن الماضي، واستكمل دراسته العليا في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة.
وقد رأى كنج كعادة غيره من الكثيرين ممن تولوا مناصب مهمة أنه من المناسب أن يكتب كتابا يسجل فيه تجربته، وخاصة فيما يتعلق بمواجهة «الأزمة المالية العالمية» التي انفجرت في عام 2008، وكادت تعصف بالاقتصاد العالمي.
وقد وضع عنوانا لهذا المؤلف «نهاية الخيمياء» ـ ما كان سائدا في العصور الوسطي من الاعتقاد بإمكان تغيير خصائص المعادن بنوع من الخرافات واستخدام ما يعرف بحجر الفلاسفة لتحويل المعادن المعروفة إلى ذهب.
والذي يريد أن يقوله كنج، هو أننا، ورغم ما تحقق من تقدم علمي، فإننا لا نزال نعتقد في بعض الأساطير والخرافات، وأنه قد آن الأوان إلى أن نتخلص من ذلك ونواجه الحقائق كما هي. وكما هو متصور، فقد ركز كنج في كتابه على موضوع البنوك والمؤسسات المالية والتي تلعب دوراً متزايداً في الحياة العامة المعاصرة.
وليس هدفي من هذا المقال تلخيص ما ورد فيه من أفكار عن أوضاع البنوك والمؤسسات المالية، ولكن أردت فقط أن أشير إلى ملاحظة مهمة، أثارت اهتمامي، وهي التواضع الشديد لمؤلفه.
فهذا الشخص الذي حصل على هذه الدرجات العلمية وتلقى العلم في أهم المراكز الدراسية في العالم، وشغل أهم المواقع تأثيراً في الحياة الاقتصادية، فإنه لا يخجل من الإشارة في هذا الكتاب إلى إجاباته أمام لجنة برلمانية شكلها مجلس العموم البريطاني لسؤاله عن الكثير من الأمور والتطورات الاقتصادية والتي قد تغيب على عقول أعضاء البرلمان.
فماذا كان يقول كنج، وكيف كان يجيب عن هذه الأسئلة؟ هناك أمور يعرفها جيداً، فكان يعرضها عليهم ويشرحها بتفصيل. ولكن هناك أمور أخرى، قد فاجأته ـ قائلاً: إنني لا أعرف كيف حدث هذا؟ أو يقول، ليس لدي مرآة سحرية لقراءة الغيب.
هذا هو محافظ البنك المركزي البريطاني، وفي كثير من الأحوال، كان كنج يري أنه غير قادر على إعطاء تفسير مقنع فيما يتعلق بالأزمة المالية عام 2008، حيث فاجأت العالم بما فيها أهم المراكز المالية بما لم يكن متوقعا، أو على الأقل بهذه الصورة المخيفة.
وليس معنى هذا أن كنج لم يكن لديه ما يقوله عن هذه الأزمة، فالكتاب كله محاولة للشرح والتفسير لما حدث، وأيضاً لما أبرزته أحداث هذه الأزمة من أمور كامنة حيث كانت خافية أو غير واضحة بشكل كامل أمام المسؤولين عن السياسات المالية والاقتصادية.
وليس معنى أن تكون معرفتنا السابقة ناقصة، أننا كنا على جهل تام، ولكن هناك مجال لمزيد من المعرفة والتعلم من تجارب الماضي. والكتاب كله هو محاولة لاستخلاص العبر وتصليح المفاهيم في ضوء هذه التجربة القاسية.
والذي أود أن أقوله هو أن الحوار والمنافسة أمور ضرورية. ولكن الحوار ينبغي أن يدور حول أمور معلومة للكافة أو على الأقل يتوافر حولها قدر معقول من المعلومات الثابتة والمتفق عليها. أما إذا كانت المعلومات المتاحة ناقصة أو غير كاملة أو متعارضة، فإنه لا جدوى من الحوار حتى تتضح الصورة.
وقد جاء الحوار حول قضية جزر مضايق تيران نموذجاً بائسا للحوار، ليس للاختلاف بين الآراء وإنما للخلاف حول الوقائع. وفي هذا الصدد، فإن الاتهام بالخيانة والتفريط في السيادة، ليس من الأمور التي تلقى بخفة أو رعونة.
المطلوب هو الارتفاع بالمسؤولية وعرض كافة الحقائق والمواثيق وتشكيل اللجان الموثوق بها من أهل الاختصاص، وتقديم البيانات الكافية والموثقة. القضية ليست قضية رأي بقدر ما هي قضية معلومات. وليس عيباً أن نقول، اننا لا نعرف الحقائق الكاملة، ودون ذلك يصعب تكوين رأي.
وأعتقد، والله أعلم، أن الغالبية من المصريين لا تعرف كل المعلومات اللازمة. وفي مثل هذه الأوضاع، فإن من يقول: لا أدري، فإنه وفقاً للفقهاء يكون قـد أفتى. وأعتقد أن الغالبية العظمى من الناس لا تعرف كافة الحقائق الأساسية ولا أستثني معظم أصحاب الأصوات العالية.