حرص الدكتور كلوفيس مقصود، رحمه الله، على المشاركة والحديث في الأمسية الخاصة التي أقامها »مركز الحوار العربي« بواشنطن، احتفالاً بالندوة الألف للمركز.
، وكان ذلك هو النشاط الأخير له قبل وفاته بأيامٍ قليلة. وكان مردّ حرص الدكتور مقصود على الوجود في هذه الأمسية، هو تقديره الكبير لأهمّية تجربة »الحوار« في العاصمة الأميركية منذ انطلاقتها الأولى، كمطبوعة في عام 1989، ثمّ بعد تحوّلها إلى منتدى ثقافي عربي في عام 1994..
حيث رافق الدكتور مقصود، هذه التجربة الفكرية الحوارية في كلّ مراحلها، والتي كانت تعني بالنسبة إليه، بناء خميرة جيّدة لما هو مطلوبٌ عربياً، من تنوّع وسط الوحدة، تنوّع في الأصول الوطنية والدينية، وفي الأفكار والمعتقدات والمهن والأعمار، لكن ضمن دائرة وحدة الثقافة العربية ووحدة الانتماء لهُويّة عربية مشتركة.
نعم، هكذا بدأت تجربة »الحوار العربي« في واشنطن، وبدور مميّز لأشخاص ساهموا بحضورهم وبفكرهم في تأسيس لبناتها الأولى، كان في مقدّمهم الدكتور كلوفيس مقصود، ومعه كان المرحوم الدكتور طه جابر العلواني، الذي توفّي أيضاً منذ أسابيع قليلة، وآخرون ندعو لهم بالخير والعافية.
كان البعض عام 1994 يتساءل: كيف سيكون أسلوب الحوار بين العرب في منطقة واشنطن، إذا كان أبناء الجالية العربية منقسمين على أنفسهم سياسياً ووطنياً، وأحياناً على أساس أصول مناطقية أو طائفية؟، وكيف يريد »مركز الحوار« حواراً هادئاً وهادفاً بين العرب، إذا كان الانقسام في المنطقة العربية قد تحوَّل من صراع حكومات إلى صراعات أهلية؟!
كان عام 1994 إضافةً لذلك، في صلب مرحلة الاتفاقات مع إسرائيل، وبدء الحديث عن »الشرق أوسطية« كبديل للهويّة العربية، والتطبيع مع إسرائيل، كبديل عن العلاقات الطبيعية بين العرب أنفسهم.
لكن هذا الظلام القاتم في العلاقات والأوضاع العربية، أكّد أهمية إشعال الشموع مهما كان حجمها.. وأينما كان مكانها. والحمد لله، نجحت تجربة »الحوار« في الاختبار، بل أصبحت الآن قيد التقليد في أماكن أخرى عديدة داخل أميركا وخارجها.
أمورٌ كثيرة أدركها المتفاعلون مع مسيرة السنوات الـ 21 الماضية، وفي ندوات بلغ عددها حتّى الآن الألف ندوة. فقد قام المشتركون في المركز، ببناء حالة نموذجية لما يحلمون به للمنطقة العربية، من حرص على الخصوصيات الوطنية والدينية والإثنية، لكن في إطار تكاملي عربي، وبمناخ ديمقراطي يصون حرّية الفكر والرأي والقول. بل جسَّدت تجربة المركز عملاً مختبريَّاً لِما هو منشودٌ للعرب جميعاً.
إنّ حال العرب أينما كانوا (في داخل المنطقة العربية أو في دول المهجر)، هي حال واحدة: معاناة من غياب العلاقات السليمة بين أبناء الوطن الواحد، وأيضاً بين أبناء الأمّة الواحدة القائمة على عدّة أوطان، ما أدّى أحياناً إلى الصراع بين هذه الأوطان. والأساس في ذلك كلّه، هو ضعف مفهوم »الهويّة العربية«، وعدم الركون إلى أسلوب الحوار لمعالجة الأزمات.
وصحيحٌ أنّ على العرب في الخارج مسؤولية »إصلاح الصورة« المشوّهة عنهم، وعن أوطانهم في المجتمعات الغربية التي يعيشون الآن فيها، لكنّ ذلك لا يلغي ضرورة »إصلاح الأصل أولاً«، والعمل على بناء الذات العربية بشكل سليم، فإنّ »فاقد الشيء لا يعطيه«، وأبناء الأمّة العربية في أيّ مكان لديهم الكثير ليعطوه لأنفسهم ولأمَّتهم وللإنسانية جمعاء..
كما هي أصول الثقافة العربية ومضمونها الحضاري، لكن العطاء يحتاج إلى أساليب سليمة وآليات صحيحة، ووضوح في الانتماء والهويّة. فتعميق الهويّة الثقافية العربية ومضمونها الحضاري النابع من القيم الدينية، أساس لبناء أي دور عربي مستقبلي أفضل في أيِّ مكان.
وقد سعينا لإيجاد مناخ حواري عربي في واشنطن، يخاطب فعل العقل لا انفعالات العواطف، ويحثّ العرب في كلِّ مكان على نبذ العنف في ما بينهم، وعلى اعتماد أسلوب الحوار لحسم خلافاتهم، وإلى تفهّم الرأي العربي الآخر، إذا تعذّر التفاهم معه!. فالحوار العربي أينما كان، هو أمرٌ مهمٌّ لمسألتين متلازمتين معاً: هويّة للحاضر ودور للمستقبل.
فالحوار العربي/العربي، كما كان يحرص عليه، ويشارك به الدكتور كلوفيس مقصود، هو حوار بين أبناء ثقافة واحدة، لكنّهم ينتمون إلى دول وكيانات متعدّدة. وبهذا، يصبح الحوار بين العرب مدخلاً لتأكيد الانتماء لأمّة واحدة، وإنْ كانت قائمة على دول متعدّدة.
كذلك، بالنسبة للعرب، فإنّ أسلوب الحوار، هو قاعدة أساسية مطلوبة لبناء مفاهيم تضمن وجود الرأي الآخر، وحقّه بالتعبير وبالمشاركة في الحياة العامّة. أيضاً، أسلوب الحوار يعني القناعة بأنّ وجود تعدّدية فكرية في أيِّ مجتمع، تتطلّب أيضاً تعدّدية سياسية في حياته العامة. فوحدة الانتماء الحضاري، ووحدة الانتماء الثقافي، لا يجب أن تعنيا إطلاقاً وحدة الانتماء الفكري أو الانتماء السياسي.