فوضى المصطلحات واللغة السائلة المفعمة بالتعميمات المجنحة، تمثل أحد أبرز معالم الكتابة العربية المعاصرة، منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، وإلى الآن.

كتابات تنطق بلغة خشبية، وفق التعبير الفرنسي الذائع، لا تبين، أو كلام ساكت، إذا استعرت التعبير السوداني الشائع، في وصف كتابات منتفخة ولا تقول شيئاً، نمط من الكتابات الفقاعية.

ولا يكاد ينجو من هذه الظاهرة الأسلوبية السلبية المنتشرة، إلا بعض القلة القليلة من الكتاب والباحثين والمثقفين الثقات ذوى التكوين المعرفي والمنهجي والاصطلاحي الرصين والأصيل، الذين يتابعون ما يجرى من تطورات في فروع المعرفة الاجتماعية، ولا يقاربون من الموضوعات أو الظواهر أو المشكلات، إلا من مواقع تخصصهم أساساً، أو عبر ما يعرفونه، أو يسعون للبحث عنه قبل الكتابة.

أنها فوضى اللغة والخطابات الحاملة لها، والمسألة لا تقتصر فقط على اللغة الاصطلاحية في المجالات السياسية والقانونية والاجتماعية، والثقافية، وإنما في أطر التعبير اللغوي للكاتب عن أفكاره..

وفى هذا السياق، نرى كثراً يتصورون أن اللغة هي وعاء الأفكار، وأن اللغة والتعبيرات التبسيطية الشائعة والمتكررة على ألسنة الجمهور، هي الوعاء الأنسب لطرح الأفكار، أياً كانت مستويات تعقيدها، هي والموضوعات التي تتناولها. وهي أمور تجاوزتها ثورة الألسنيات لأن اللغة هي الأفكار.

هذه «الأسطورة الأسلوبية»، إذا جاز التعبير وساغ، جزء من بعض التقاليد المهنية التي شاعت، ولا تزال، في بعض الأوساط الصحافية والإعلامية، التي كانت ترى أن نجاح الكاتب أو الصحافي، هو في قدرته على توصيل أفكاره إلى عوام القراء دون تعقيد أو فصاحة لغوية.

هذا الإدراك للغة الصحافية والإعلامية، ساد في أوساط الصحافة الشعبية المصرية والعربية، نقلاً عن خبرات نظرائها الأميركية والبريطانية، التي كانت ترمي إلى مخاطبة القارئ الشعبي العادي، ومن ثم، تميل إلى الإثارة والسجالية والصخب، سواء أكان الموضوع الذي تتناوله بسيطاً أو تافهاً أو مهماً في ذاته، أو لانعكاساته الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية. من هنا، ميلها العارم إلى تناول بعض الموضوعات الغرائبية أو التي تبدو غير عادية.. إلخ.

أخطر ما في الفوضى اللغوية والاصطلاحية، تمثل في لجوء بعض الصحافيين والإعلاميين في الفضائيات، وبعض الكتاب، إلى استخدام إنشائي للمصطلحات الجديدة في العلوم الاجتماعية، وذلك كجزء من «الماكياج اللغوي»، أو لتجميل الكتابة، أو لإعطاء مهابة ورونق لكتاباتهم وأحاديثهم المتلفزة في توظيفات خاطئة تماماً، ومتناقضة مع ما يريدون إيصاله إلى القارئ أو المتلقي.

خذ على سبيل المثال، مصطلحات من قبيل إشكالية، وتستخدم على أنها مشكلة، أو الخلط بينها وبين الأزمة، والإفراط في استخدام مصطلح الخطاب، دون معناه ودلالته ومقاربته التحليلية، والخلط بين تحليل الخطاب وتحليل المضمون، على نحو ما انتشر في بعض الكتابات والرسائل الجامعية.

بعض هؤلاء الباحثين والكتاب، يتحدثون ويكتبون عن الخطاب الديني مثلاً، وكأنه خطاب واحد مسيطر، أو ما يتصورون أنه الخطاب الذي يسود لدى بعض الجماعات السلفية أو التكفيرية أو الإرهابية.

وكأن خطاب هؤلاء واحد، ومتجانس، ثم يطلقون أحكام القيمة المعيارية، على هذا الخطاب الذي صاغوه في أذهانهم على نحو انتقائي لمساجلته، أو إطلاق أحكام سلبية على مقولاته، دونما درس لبنية الخطابات الدينية على تعددها والتداخل والتمايز في ما بين بعضها بعضاً.

هذا التنميط والنزعة السجالية إزاء نمط الخطاب الديني السياسي التكفيري، والمحرض على العنف والإرهاب والوحشية، هو في حقيقة الأمر، هروب من الممارسة البحثية الجادة التي تعتمد على المعرفة، والاستناد إلى هياكل معلوماتية دقيقة ومنضبطة، ومعرفة منهجية، وتدريب جاد على تطبيق مناهج تحليل الخطاب.

مئات الندوات تعقد حول تجديد الخطاب الديني، ومحصولها المعرفي في غالبه لغو وثرثرة وإنشاء أسلوبي، وقلة قليلة هي الدراسات التي ينطبق عليها مصطلح ومقاربة الخطاب.

خذ على سبيل المثال، الحديث عن تجديد الخطاب الثقافي، دونما ضبط اصطلاحي أو دلالي، هل هناك خطاب ثقافي واحد، أم تعدد للخطابات الثقافية؟

فوضى اصطلاحية ومفاهيمية، تخلط بين الثقافة في عمومها، وبين الخطابات الثقافية في غموض وتعميمات مفرطة، حيث لا توجد ورقة خلفية نظرية، تضبط المصطلحات والمفاهيم، وتضع تخطيطاً للموضوع وقضاياه، وتحدد معالمه، حتى يكون هناك ثمة حوار موضوعي وجاد يحيط بموضوع الملتقى الرئيس وقضاياه وإشكالياته، هذا النمط من التفكير العام والغامض، هو نتاج لحالة عامة من التفكير الانطباعي والشعاراتي، والأخطر أنه أحد تجليات التفكير الفقاعي، والجري وراء الاصطلاحات الرائجة، كموضة فكرية، دون استخدامات جادة ورصينة لها.

إن بعض أنماط الكتابة السائدة عربياً في العموم، تسهم في إشاعة الضبابية واللغو وعدم الوضوح، وأدت إلى إنتاج محرك من محركات الضجيج اللغوي الذي يشيع سحابات وسواتر كثيفة من القتامة والغموض في الحياة الصحافية والإعلامية والأكاديمية والثقافية، والأخطر أنها تعوق الاتصال المعرفي، وتطوير الوعي الجماعي بين الجماعات.