أحد أسباب تدهور وركود العقل والتعليم العربي طيلة أكثر من ستة عقود، يتمثل في ضعف ثقافة السؤال، والنزعة النقدية التحليلية للظواهر والمشكلات والأزمات التي تواجه المجتمع و»الفرد«..

والمكونات الأساسية التي تتشكل منها الأمة، كإطار متخيل وجامع بين مكوناتها. ومن ناحية أخرى، الانفصال بين السياسات والمناهج والمواد التعليمية عن ثقافة السؤال، على نحو أدى إلى شيوع أسئلة البداهات على غموض بعضها وعموميته - أو العجز عن وضع السؤال في الفكر والتعليم والسياسة والثقافة، وفي الحياة اليومية لآحاد الناس من »العوام«! والسؤال ما المقصود بثقافة السؤال؟.

نقصد بثقافة السؤال، مجموعة التقاليد والممارسات الذهنية التي تعتمد في مقارباتها للواقع الموضوعي، والظواهر الاجتماعية والطبيعية والعلمية، على طرح نظام من الأسئلة الكيفية والإشكالية التي لا توجد إجابات بديهية عنها، ومن تفتح الأبواب أمام أسئلة أخرى، ومساءلة الأسئلة ذاتها بحثاً عن إجابات عنها، وهي الأمر الذي يختلف عن الأسئلة البديهية والعامة..

والتي تعيد إنتاج معرفة مسبقة، يعتري بعضها الغموض أو العمومية وعدم الانضباط، ومن ثم، تعيد أسئلة البداهة في الغالب الأعم ذاتها، ومعها الإجابات المحمولة عنها دون تنشيط للعمليات العقلية، أو تغطية العيون والبصائر، عن مواجهة التغيرات في الواقع الموضوعي بمشكلاته وظواهره وأزماته.

وقد أثار ببراعة صديقنا الأنثربولوجي المرموق، البروفسير محمد المعزوز، بعض التمايزات بين الأسئلة البديهية والإشكالية والكيفية في المداولات التمهيدية لمؤتمر مؤسسة الفكر العربي عن التكامل العربي، أسئلة وآفاق، الذي عقد بالقاهرة منذ أيام، بمناسبة سبعينية ميلاد الجامعة العربية.

وهي تمايزات مهمة وأساسية لتحريك وتنشيط أسئلة جديدة أو قديمة، يعاد مساءلتها بحثاً عن مشاركة جماعية حول قضايا التكامل العربي.

ويبدو لي أن أحد أسباب ضعف ثقافة السؤال، والإشكالي على وجه التحديد، تتمثل في ضعف مستوى تعليم اللغة العربية، وتردي مناهجها، وعدم ضبط معانيها لدى الكثرة الكاثرة من المثقفين والمتعلمين.

والغموض الذي يعتري استخداماتنا لمفرداتها وصياغاتها وأساليبها، وتحول ثراء مفرداتها إلى عبء وإلى تشوش، على الرغم من أنها لغة غنية بمفرداتها، من ناحية أخرى، بطء عملية تعريب المفردات والمصطلحات العلمية في العلوم الطبيعية والاجتماعية إلى اللغة العربية، لإثراءها وتطويرها وتبسيط البني النحوية.

لا شك أيضاً أن وراء تراجع العقل النقدي لصالح هيمنة العقل النقلي، وذاكرة الحفظ والاستظهار، تعود إلى الانفصال بين التعليم وثقافة السؤال، لاعتماده على تلقين البداهات وإعادة تلاوتها.

وعدم تدريب وتمرين الطلاب على الممارسة النقدية للظواهر الاجتماعية والعلمية، وعدم إعادة النظر في أسئلة ومقررات ومواد المناهج المفروضة على الطلاب، والتي يضعها بعض المدرسيين من مفتشي التخصصات المختلفة، أو بعض أساتذة التربية وسواهم.

إن افتقار التعليم للأسئلة الإشكالية والممارسة النقدية، وغياب مساءلة الأسئلة ذاتها، التي تطرح بين الحين والآخر، هو الذي يخرج لنا جيوشاً من الخريجين، ليست لديهم القدرة في أغلبيتهم والاستثناءات محدودة - على طرح الأسئلة بحثاً عن أجوبة دقيقة لها، أو النظرة النقدية لمشكلات الواقع الموضوعي، أو مشكلاتهم الشخصية، أو مساءلة معارفهم السطحية!، وهو ما أدى، ولا يزال، إلى شح إنتاج الكفاءات والمهارات والمواهب، على نحو أدى إلى تجريف العقل المصري العام.

إن ثقافة وتعليم البداهات، أصبحا جزءاً من الممارسة التعليمية في رياض الأطفال، ومدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا، وهو ما يشكل استمرارية لنظام الكتاتيب، دون مزاياه الأخرى.

وساعد على تعليم البداهات، سيطرة عقل البداهة والتلقين والمحفوظات والمرويات الشعبية وأمثولاتها على ذهنية المدرسين والمدرسات، الذين يقومون بتحويل العملية التعليمية من ميدان الأسئلة وتحليل ونقد الظواهر والمشكلات والأفكار - إلى تلقين وحفظ وتلاوة وتكرار واختصار المناهج - ذات المستوي الضعيف والرديء - إلى مجموعة من الأسئلة العامة، والإجابات النمطية الجاهزة عنها، والتي تلخص ما جاء بموضوعات المنهج المقرر، وذلك بهدف اجتياز الاختبارات الشهرية أو نصف السنوية، أو نهاية العام الدراسي..

وفي الشهادات العامة. وما يجري في المدارس على اختلافها، نجد بعضاً منه في كليات العلوم الاجتماعية، كالحقوق والآداب ودار العلوم والألسن والتربية.. إلخ، ومعها بالقطع الكليات الأزهرية، حيث سطوة العقل النقلي والحفظ والتلاوة للمتون والحواشي شارة وعلامة عليها، والاستثناءات محدودة.

غياب ثقافة الأسئلة الإشكالية والكيفية - وممارسة البحث الحر للطلاب، هو الذي أدى إلى تحول هذا النمط التعليمي السائد إلى عبء على التنمية والتطور، بدلاً أن يكون محركاً للانطلاق نحو التنمية واللهاث وراء عالمنا الأكثر تطوراً.

إن الفشل المتكرر لمشروعات تطوير وتحديث التعليم ومناهجه، تعود إلى عدم بلورة رؤيا فلسفية ومنهجية، يقوم عليها التعليم ومناهجه وسياساته، وهو أمر يرجع إلى انفصال التربويين وواضعي المناهج عن متابعة الرؤى والسياسات التعليمية السائدة في البلدان الأكثر تطوراً، والأخرى الصاعدة، ومشروعاتها على نحو نقدي ومقارن، ودرس الحالة المصرية الكارثية، وتطور مشاكلها وإشكالياتها. ومن ثم، لا تعدو مشروعات التطوير، أن تكون تكراراً لبعضها بعضاً، من أسف وأسى معاً.