لم يكن سراً أن الضربات التي بدأت «داعش» تتلقاها في سوريا والعراق، سوف تدفع الأوروبيين منهم للعودة لبلادهم، وسوف تدفع غيرهم للبحث عن بديل يلجؤون إليه هرباً من سوريا والعراق. ولعل ذلك كان أحد أسباب إطالة الصراع في ليبيا التي أرادت داعش أن تعدها لهذا الدور البديل.

وفي الوقت الذي كانت أوروبا تحاول الاستعداد لهذا الخطر، وكانت دول أخرى مثل مصر تواصل معركتها التي لم تنقطع ضد جماعات الإرهاب من الإخوان والدواعش.. كانت الإدارة الأميركية تستبعد أن يصل الخطر إليها.. ربما لبعد المسافة، أو لثقتها في أجهزتها الأمنية والاستخباراتية، أو لاعتقاد أن جماعات الإرهاب «وأولهم داعش» ستحفظ الجميل وتمتنع عن مهاجمة من ساعدها ـ مباشرة أو بالواسطة ـ وراهن على بعضها مدعياً أنها تمثل الاعتدال بينما هي أساس البلاء ومنبع الفكر الإرهابي المنحرف!

أسرار الانتشار المفاجئ لداعش وإقامتها دولة الخلافة المزعومة لم تكشف كلها بعد، لكن دعونا نضع خطوطاً تحت بعض النقاط، خاصة ما يتعلق منها بالدور الأميركي بالذات.

لا يمكن أن تكون مصادفة أن يأتي التوسع المذهل لجماعة «داعش» في العراق وسوريا، بعيداً عن حقيقة أنه جاء بعد شهور قليلة من سقوط حكم الإخوان الفاشي. وفي فترة كانت الإدارة الأميركية ما زالت تواصل الضغوط على مصر، لكي تقبل بعودة هذا الفصيل الإرهابي للسلطة، كما كانت تفرض حصاراً سياسياً وعسكرياً على مصر، وهي تحارب وحدها جماعات الإرهاب التي أرادت أن تستوطن شبه جزيرة سيناء! وكان زعماء جماعة «الإخوان» يعلنون بكل صراحة أن وقف الإرهاب مرتبط بعودتهم للحكم. وواشنطن تحاول ترويج نظرية أن «الإرهاب المعتدل» أرحم من «الإرهاب المتطرف» وهو ما رفضته مصر شعباً وحكومة وجيشاً، وما رفضته معها دول عربية شقيقة كانت «الإمارات العربية المتحدة» في مقدمتها وهي تعلن «الإخوان» جماعة إرهابية وتحظر نشاطها بالكامل.

كان واضحاً أن توقيت إطلاق داعش في سوريا والعراق مرتبط بترتيب الأوراق في المنطقة، وكان غريباً أن تحشد أميركا تحالفاً دولياً هائلاً، ثم تقول: إن الأمر يحتاج لسنوات، ثم تقف ساكنة حتى تحرك الروس دفاعاً عن مصالحهم في سوريا، فاضطرت أميركا أخيراً للتحرك، بعد أن استخدمت «داعش» كما ينبغي في استنزاف العرب، وفي إدارة مفاوضاتها مع إيران لتصل إلى التفاهم حول الملف النووي، وليكون مدخلاً لتحالف يتم بناؤه لاستعادة الأيام الخوالي حين كانت إيران الشاه تقوم بدور شرطي المنطقة لصالح أميركا.

وكان واضحاً أيضاً أن إطلاق «داعش» في هذا التوقيت لا يعني فقط إعطاء مبرر لمد النفوذ الإيراني، وإنما الأخطر أنهم كانوا ـ وما زالوا ـ يريدون تنفيذ ذلك على أسس طائفية ومذهبية، تشعل نيران الصراع بين الأشقاء من السنة والشيعة شركاء التاريخ المشترك والمصير الواحد في كل أنحاء العالم العربي.

وكانت التقديرات الاستراتيجية الخائبة لواشنطن في المنطقة، تراهن على أن انتشار «داعش» سيقضي على «القاعدة» وسيغير قواعد اللعبة، حيث كانت «القاعدة» تعارض قيام دولة لها حتى لا تكون هدفاً لهجمات لا تتحملها، وكانت تفضل انتشار «الجماعات العنقودية» المتأثرة بأفكارها بينما كانت «داعش» تتصور أن إعلانها «دولة الخلافة» سيجعلها نقطة جذب لكل الجماعات الإرهابية والتكفيرية بينما كانت للسياسة العديد من أجهزة المخابرات الغربية تتصور أن تجمع الإرهابيين في منطقة نفوذ «داعش» سيسهل مراقبتهم ومتابعتهم وتوجيه الضربات القاتلة لهم عند اللزوم. كما سيريح دول الغرب من آلاف المتطرفين الذين سيلحقون بدويلة الدواعش. دون أن يتحسبوا في البداية لمخاطر عودتهم بعد ذلك لبلادهم محملين بخبرة عملية في الإرهاب، ليتحول كل منهم إلى قنبلة في وجه المجتمع الذي كان جزءاً منه، قبل أن يأخذه الفكر المنحرف إلى عالم الدواعش وغيرهم من الجماعات الإرهابية.

ما لم يتحسبوا له يحدث الآن، يعود المتطرفون وتصحو الخلايا النائمة ويشتد الخطر. كان البعض يتوقع ـ مع تراجع داعش ـ أن يعود المتطرفون لأسلوب «القاعدة» وأن تكون الخلايا المتفردة والمنتشرة في بقاع العالم هي الوسيلة التي ستجذب بقايا الدواعش، يحدث شيء من ذلك الآن، لكن الأسوأ والأخطر هو ظاهرة «الذئاب المنفردة أو المتوحدة» شخص واحد يقوم بالعملية ويقتل في الغالب أثناءها.

متابعة الجماعات أو الخلايا الإرهابية أسهل من واجهة «الذئاب المنفردة» الخلايا تحتاج للاتصال والتواصل، وأي خطأ صغير من أحد أعضائها يمكن أن يقود إليها في ظل الإجراءات الأمنية المتشددة.. أما «الذئب المنفرد» فيعمل وحده ويتحرك دون ارتباطات تكشف عنه. ويضرب ضربته حيث لا يتوقع أحد.

الآن يتحدثون في أوروبا وأميركا عن حرب ستطول لأكثر من عشر سنوات ضد هذا النوع من الإرهاب، والآن لم يعد هناك مفر من تعاون دولي حقيقي لمواجهة هذا الخطر الذي يعرف الجميع أن أحداً لن يكون بعيداً عنه.

والآن علينا أن نتوقع ضربات أخرى تحاول أن تضاعف من موجة العداء للمسلمين التي يحاول البعض «مثل المرشح الجمهوري ترامب» استغلالها أسوأ استغلال في معركته الانتخابية الرخيصة والمليئة بالعنصرية ونشر الكراهية.

والآن على الجميع أن يدرك أنه لا بد أن تكون الحرب ضد هذا الإرهاب حرباً شاملة، قد يكون الجزء الأهم فيها هو الجزء المتعلق بالأفكار والقصائد التي تحول إنساناً سوياً إلى ذئب بشري يتستر زوراً بالدين ليقتل الأبرياء بلا رحمة وينشر الإرهاب بلا حدود.

وليدرك الذين تساهلوا مع أفكار حسن البنا وسيد قطب إلى أين قادتنا، وماذا فعلت بصحيح الإسلام، وكيف أشعلت الدمار والكراهية، وهي تنقل تنظيم الإخوان الخاص إلى الدواعش والقاعدة وغيرها. انطلاقاً من أفكار مريضة ـ ما زال البعض في الغرب وفي الإقليم يحتفي بها ويساعدها ـ تحكم على كل من لا يتبعهم بالكفر، ولا ترى في الأوطان العزيزة إلا حفنة من تراب عفن!